كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
وحيها يموت ، وخيرها يفوت . فاستيقظوا من غفلتكم ، وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال : فلانٌ عليل ، أو مدنفٌ ثقيل ، فهل على الدواء من دليل ، أو على الطبيب من سبيل ، فيدعى لك الأطباء ، ولا يرجى لك الشفاء ، ثم يقال : فلانٌ أوصى ، ولماله أحصى ، ثم يقال : قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ، ولا يعرف جيرانه ، وعرق عند ذلك جبينك ، وتتابع أنينك ، وثبت يقينك ، وطمحت جفونك ، وصدقت ظنونك ، وتلجلج لسانك ، وبكى إخوانك ، وقيل لك : هذا ابنك فلان ، وهذا أخوك فلان ، ومنعت الكلام فلا تنطق ، ثم حل بك القضاء ، وانتزعت نفسك من الأعضاء ، ثم عرج بها إلى السماء ، فاجتمع عند ذلك إخوانك ، وأحضرت أكفانك ، فغسلوك وكفنوك ، فانقطع عوادك ، واستراح حسادك ، وانصرف أهلك إلى مالك ، وبقيت مرتهناً بأعمالك .
وقال بعض الحكماء : الأيام سهام ، والناس أغراض ، والدهر يرميك كل يومٍ بسهامه ، ويتخرمك بلياليه وأيامه ، حتى يستغرق جميع أجزائك ، فكم بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك ، وسرعة الليالي في بدنك لو كشفت لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يومٍ يأتي عليك ، واستثقلت ممر الساعات بك ، ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار ، وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها ، وإنها لأمر من العلقم إذا عجمها الحكيم ، وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها ، وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ . أللهم أرشدنا للصواب .
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال : أيها الناس ، إنكم خلقتم لأمرٍ إن كنتم تصدقون به فإنكم حمقى ، وإن كنتم تكذبون به إنكم لهلكى ، إنما خلقتم للأبد ، ولكنكم من دارٍ إلى دارٍ تنقلون . عباد الله ، إنكم في دارٍ لكم فيها من طعامكم غصص ، ومن شرابكم شرق ، لا تصفو نعمةٌ تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها ، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه خالدون فيه . ثم غلبه البكاء ونزل .