كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه
فأما درجاته فقد قال الغزالي رحمه الله : إنها تتفاوت بحسب تفاوت قوته على ثلاث درجاتٍ : الأولى وهي السفلى منها : أن يزهد في الدنيا وهو لها مشتهٍ ، وقلبه إليها مائل ، ونفسه إليها ملتفتةٌ ولكنه يجاهدها ويكفها ، وهذا يسمى التزهد ، وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد . والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كسبه ، والزاهد يذيب أولاً كسبه ثم يذيب نفسه في الطاعة لا في الصبر على ما فارقه . والمتزهد على خطر ، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليلٍ أو كثير .
الثانية : الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهماً لأجل درهمين فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظارٍ قليل . ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه ، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه ، فيكاد يكون معجباً بنفسه وزهده ، ويظن بنفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه ، وهذا أيضاً نقصان .
الثالثة وهي العليا : أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده ، إذا لا يرى أنه ترك شيئاً إذ عرف أن الدنيا لاشيء ، فيكون كمن ترك خزفةً وأخذ جوهرةً فلا يرى ذلك معاوضةً ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً . والدنيا بالإضافة إلى الله ونعيم الآخرة أخس من خزفةٍ بالإضافة إلى جوهرة ، فهذا هو الكمال في الزهد ، وسهبه كمال المعرفة . وأما أقسامه فمنها ما هو مضافٌ إلى المرغوب فيه والمرغوب عنه ، فأما المرغوب فيه فهو على ثلاث درجات : الأولى هي السفلى : أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار . وفي الخبر : " إن الرجل ليوقف في الحساب حتى لو وردت مائة بعيرٍ عطاشاً على عرقه لصدرت رواءً " ، فهذا زهد الخائفين وكأنهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإن الخلاص من الألم يحصل بمجرد العدم .