كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
الدرجة الثانية : أن يزهد رغبةً في ثواب الله ونعمه واللذات الموعودة في جنته من الحور والقصور وغيره ، وهذا زهد الراجين ، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعةً بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجودٍ دائمٍ ونعيمٍ سرمدٍ لا آخر له .
الدرجة الثالثة وهي العليا : ألا يكون له رغبةٌ إلا في الله وفي لقائه ، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ، ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها ، بل هو مستغرق الهم بالله تعالى ، وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى ، لأن من طلب غير الله فقد عبده ، وكل مطلوبٍ معبود ، وكل طالبٍ عبد بالإضافة إلى مطلبه ، وطلب غير الله فمن الشرك الخفي ، وهذا زهد المحبين وهم العارفون ، لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه ، وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار ، فلذلك من عرف الله تعالى وعرف للذة النظر إلى وجهه الكريم ، وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن ، فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره . قال : ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور القصور متسعٌ في قلوبهم ، بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى الاستيلاء على عصفورٍ واللعب به ، والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق .
وأما المرغوب عنه ، فقد كثرت فيه الأقاويل .
قال الغزالي رحمه الله : لعلها تزيد على مائة قولٍ ، وأشار إلى كلام محيط بالتفاصيل فقال : المرغوب عنه بالزهد له إجمالٌ وتفصيل ، ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمع للجمل .
أما الإجمال في الدرجة الأولى : فهو كل ما سوى الله ينبغي أن يزهد فيه حتى يزهد في نفسه أيضاً .