كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله ما يقوت وهو الخبز من النخالة ، وأوسطه خبز الشعير والذرة ، وأعلاه خبز البر غير منخول ، فإذا ميزت النخالة منه وصار حوارى فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلاً عن أوائله .
وأما الأدم ، فأقله الملح أو البقل والخل ، وأوسطه الزيت أو يسيرٌ من الأدهان ، وأعلاه اللحم وذلك في الأسبوع مرةً أو مرتين ، فإن صار دائماً أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج من آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهداً في البطن أصلاً .
وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرةً وهو أن يكون صائماً ثم يفطر في وقت الإفطار ، وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلةً ولا يأكل ، ويأكل ليلةً ولا يشرب ، وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيامٍ وأسبوعاً وما زاد عليه . وانظر إلى أحوال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم واقتصارهم على ما يمسك الرمق . قال عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : كانت تأتي علينا أربعون ليلةً وما يوقد في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مصباحٌ ولا نار . قيل لها : فبم كنتم تعيشون ؟ قالت : بالأسودين التمر والماء . وجاء أهل قباء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشربةٍ من لبنٍ مشوبةٍ بعسل ، فوضع القدح من يده وقال : " أما إني لست أحرمه ولكني أتركه تواضعاً لله تعالى " . وأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشربةٍ من ماءٍ باردٍ وعسلٍ في يومٍ صائفٍ فقال : اعزلوا عني حسابها . وقال يحيى بن معاذ الرازي . الزاهد الصادق قوته ما وجد ، ولباسه ما ستر ، ومسكنه حيث أدرك ، الدنيا سجنه ، والقبر مضجعه ، والخلوة مجلسه ، والاعتبار فكرته ، والقرآن حديثه ، والرب أنيسه ، والذكر رفيقه ، والزهد قرينه ، والحزن شأنه ، والحياء شعاره ، والجوع إدامه ، والحكمة كلامه ، والتراب فراشه ، والتقوى زاده ، والصمت غنيمته ، الصبر معتمده ، والتوكل حسبه ، والعقل دليله ، والعبادة حرفته ، والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى .