كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 256 """"""
المهم الثاني الملبس . وأقل درجاته ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة ، وهو كساءٌ يتغطى به ، وأوسطه قميصٌ وقلنسوة ونعلان ، وأعلاه أن يكون معه منديلٌ وسراويل . وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوزٌ حد الزهد . وشرط الزهد ألا يكون له ثوبٌ يلبسه إذا غسل بل يلزمه القعود في البيت ، فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع أبواب الزهد . هذا من حيث المقدار . وأما الجنس ، فأقله المسموح الخشنة ، وأوسطه الصوف الخشن ، وأعلاه القطن الغليظ .
وأما من حيث الوقت ، فأقصاه ما يستر سنةً ، وأقله ما يبقى يوماً ، وقد رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر وإن كان يتسارع الجفاف إليه ، وأوسطه ما يتماسك عليه شهراً وما يقاربه . فطلب ما يبقى أكثر من سنةٍ خروجٌ إلى طول الأمل ، وهو مضادٌ للزهد إلا إذا كان المطلوب خشونته وقد يتبع ذلك قوته ودوامه . فمن وجد زيادةً من ذلك فينبغي أن يتصدق به ، فإن أمسكه لم يكن زاهداً بل كان محباً للدنيا . ولينظر إلى أحوال الأنبياء صلى الله عليهم والصحابة رضي الله عنهم كيف تركوا الملابس . قال أبو بردة : أخرجت لنا عائشةٌ رضي الله عنها كساءً ملبداً وإزاراً غليظاً فقالت : قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذين . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله تعالى يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس " . وفي الخبر : " ما من عبدٍ لبس ثوب شهرةٍ إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيباً " . واشترى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثوباً بأربعة دراهم وكان إزاره أربعة أذرعٍ ونصفاً ، واشترى سراويل بثلاثة دراهم ، وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوفٍ وكانت تسمى حلةً لأنهما ثوبان من جنسٍ واحد . وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليين . ولبس ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً واحداً ثوباً سيراء من سندسٍ قيمته مائتا درهم ، فكان أصحابه يلمسونه ويقولون : يا رسول الله ، أنزل هذا عليك من الجنة تعجباً ، وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية ، فأراد أن يكرمه بلبسه ثم نزعه وأرسل به إلى رجلٍ من المشركين وصله به ، ثم حرم لبس الحرير والديباج . وقد صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )

الصفحة 256