كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 259 """"""
ممن بنى وترك ولكني أعجب ممن نظر إليه ولم يعتبر . وقال ابن مسعود : يأتي قومٌ يرفعون الطين ، ويضعون الدين ، ويستعملون البراذين ، يصلون إلى قبلتكم ، ويموتون على غير دينكم . المهم الرابع أثاث البيت . وللزهد فيه أيضاً درجات ، أعلاها حال عيسى عليه السلام إذا كان لا يصحبه إلا مشطٌ وكوز ، فرأى إنساناً يمشط لحيته بأصابعه ، فرمى بالمشط . ورأى آخر يشرب من النهر بكفيه فرمى بالكوز . وهذا حكم كل أثاثٍ فإنه إنما يراد لمقصودٍ فإذا استغني عنه فهو وبالٌ في الدنيا والآخرة . وما لا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقل الدرجات وهو الخزف في كل ما يكفي فيه الخزف ، ولا يبالي أن يكون مكسور الطرف إذا كان المقصود يحصل به . وأوسطها أن يكون له أثاثٌ بقدر الحاجة صحيحٌ في نفسه ، ولكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصدٍ كالذي معه قصعةٌ يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها . وكان السلف يستحبون استعمال آلةٍ واحدةٍ في أشياء للتخفيف . وأعلاها أن يكون له بعدد كل حاجةٍ آلةٌ من الجنس النازل الخسيس ، فإن زاد في العدد أو في نفاسة الجنس خرج من جميع أبواب الزهد وركن إلى طلب الفضول . ولينظر إلى سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسيرة أصحابه رضي الله عنهم . قالت عائشة رضي الله عنها : كان ضجاع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي ينام عليه وسادةً من أدم حشوها ليف . وقال الفضيل : ما كان فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا عباءةً مثنيةً ووسادةً حشوها ليف . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نائمٌ على سريرٍ مرمولٍ بشريط ، فجلس فرأى أثر السرير في جنبه عليه السلام فدمعت عينا عمر . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما الذي أبكاك يا بن الخطاب " ؟ قال : ذكرت كسرى وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيه ورسوله نائمٌ على سريرٍ مرمولٍ بالشريط فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما ترضى يا عمر أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة " قال : بلى يا رسول الله . قال : " فذلك كذلك " . ودخل رجلٌ على أبي ذرٍ فجعل يقلب بصره في بيته فقال : يا أبا ذر ، ما أرى في بيتك متاعاً ولا غير ذلك من الأثاث فقال : إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح

الصفحة 259