كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
ثم اشتهرا حتى غني الرشيد بهما يوماً فاستظرفهما ، وسأل إسحاق هل تعرفهما ؟ فقال : لا ، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيدها ومتقنها . ثم سأل الجارية عنهما فوقفت خوفاً من عمتي وحذراً أن يبلغ جدي أنها ذكرتني ، فانتهرها الرشيد فأخبرته القصة ، فوجه من وقته فدعا بجدي فقال له : يا فضل ، أيكون لك ابنٌ يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما الجواري القيان فلا تعلمني بذلك ، كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن فقال له جدي : وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا بريءٌ من بيعتك وعلى العهد والميثاق والعتق والطلاق إن كنت علمت بشيءٍ من هذا قط إلا منك الساعة . فمن هذا من ولدي ؟ قال : عبد الله بن العباس هو ، فأحضرنيه الساعة . فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظاً ، فدعاني ، فلما خرجت إليه شتمني وقال : يا كلب بلغ من أمرك أنك تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذني ثم زاد ذلك حتى صنعت ، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ، ثم تجاوزهن إلى جواري الحارث بن بسخنر ، فاشتهرت ، وبلغ أمير المؤمنين فتنكر لي ولامني ، وفضحت آباءك في قبورهم وسقطت للأبد إلا من المغنين فبكيت مما جرى علي وعلمت أنه صدقني ، فرحمني وضمني إليه وقال : قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين ، إحداهما به وقد مضى وفات ، والأخرى بك وهي موصولةٌ بحياتي ، ومصيبةٌ باقية العار علي وعلى أهلي بعدي ، وبكى وقال : عز علي يا بني أني أراك أبداً ما بقيت على غير ما أحب ، وليست لي في هذا الأمر حيلةٌ لأنه أمرٌ قد خرج عن يدي . وقال : جئني بعودٍ حتى أسمعك وأنظر كيف أنت ، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة وإلا جئت بك منفرداً وعرفته خبرك واستعفيته لك . فأتيت بعودٍ وغنيت غناءً قديماً ، فقال : لا ، بل صوتيك الذين صنعتهما ، فغنيته إياهما ، فاستحسنهما وبكى ، ثم قال : بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك . فواحزناً عليك وعلى أبيك فقلت : ليتني مت قبل ما أنكرته أو خرست ومالي حيلة لكني وحياتك يا سيدي - وإلا فعلى عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمينٍ يحلف بها حالف لازمة لي - لا غنيت أبداً إلا لخليفةٍ أو ولي عهدٍ . فقال : قد أحسنت فيما نبهت عليه من هذا . فركب أمر بي فأحضرت ، ووقفت بين يدي الرشيد وأنا أرعد ، فاستدعاني واستدناني حنى صرت أقرب الجماعة إليه ، ومازحني وأقبل