كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
مقصودٌ لبقاء نسله ، وتكثير أمة محمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) من القربات . واللذة التي تلحق الإنسان فيما هو من ضرورة الوجود لا تضره إذا لم تكن هي المقصد والمطلب ، وهكذا كمن ترك أكل الخبز وشرب الماء احترازاً من لذة الأكل والشرب ، وليس ذلك من الزهد في شيء ، لأن من ترك ذلك فوات بدنه ، فكذلك في ترك النكاح انقطاع نسله ، فلا يجوز أن يترك النكاح زهداً في لذته من غير آفةٍ أخرى . قال : وأكثر الناس تشغلهم كثرة النسوان ، فينبغي أن يترك الأصل إن كان يشغله ، وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح واحدةً غير جميلةٍ وليراع قلبه في ذلك . قال أبو سليمان : الزهد في النساء أن تختار المرأة الدون أو اليتيمة على المرأة الجميلة والشريفة . وقال الجنيد : أحب للمريد المبتدي ألا يشغل قلبه بثلاثٍ وإلا تغير حاله : التكسب ، وطلب الحديث ، والتزوج . فقد ظهر أن لذة النكاح كلذة الأكل والشرب ، فما شغل عن الله تعالى فهو محذورٌ فيهما جميعاً .
المهم السادس : ما يكون وسيلةً إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه . أما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محلٍ فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال . وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجاته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاهٍ لا محالة في قلب خادمه ، لأنه لم يكن عنده محلٌ وقدر لم يقم بخدمته . وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه . قال : وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفعٍ أو لدفع ضررٍ أو لخلاصٍ من ظلم . فأما النفع فيغني عنه المال ، فإن من يخدم بأجرة خدمٍ وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر ، وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة . وأما دفع الضرر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلدٍ لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيرانٍ يظلمونه فلا يقدر على دفع شرهم إلا بمحلٍ له في قلوبهم أو محلٍ له عند السلطان . وقدر الجاه فيه لا ينضبط . والخائض في طلب الجاه سالكٌ طريق الهلاك . بل حق الزاهد ألا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلاً ، فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع عنه الأذى ولو كان بين الكفار فكيف بين المسلمين .
وأما التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادةٍ في الجاه على الحاصل بغير كسبٍ فهي أوهامٌ كاذبة ، إذ من طلب الجاه لم يخل عن أذى في بعض الأحوال ، فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه . فإذا طلب المحل في