كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
القلوب لا رخصة فيه أصلاً ، واليسير منه داعٍ إلى الكثير ، وضراوته أشد من ضراوة الخمر ، فليحترز من قليله وكثيره .
وأما المال ، فهو ضروريٌ في المعيشة أعني القليل منه . فإن كان كسوباً ، فإذا اكتسب حاجة يومه فينبغي أن يترك الكسب ، هذا شرط الزهد ، فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنةٍ فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم جميعاً . وإن كانت له ضيعةٌ ولم تكن له قوة يقينٍ في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفي ريعه لسنةٍ واحدةٍ فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية سنة ، ولكن يكون من ضعفاء الزهاد . قال : وأمر المنفرد في جميع ذلك أخف من أمر المعيل . وقد قال أبو سليمان : لا ينبغي أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل يدعوهم إليه ، فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء . قال : والذي يضطر إليه الإنسان من الجاه والمال ليس بمحدود ، فالزائد منه على الحاجة سمٌ قاتل ، والاقتصار على قدر الضرورة دواءٌ نافع ، وما بينهما درجاتٌ متشابه ، فما يقرب من الزيادة وإن لم يكن سماً قاتلاً فهو مضرٌ ، وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواءً نافعاً لكنه قليل الضرر . والسم محظورٌ شربه ، والدواء فرضٌ تناوله ، وما بينهما مشتبهٌ أمره . فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه ، ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه ، ومن استبرأ لدينه وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من الفرقة الناجية لا محالة . والمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا ، بل ذلك القدر من الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين ، والشرط من جملة المشروط .
وقد روي أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجةٌ فذهب إلى صديقٍ له يستقرضه شيئاً فلم يقرضه فرجع مهموماً ، فأوحى الله تعالى إليه : لو سألت خليلك لأعطاك . فقال : يا رب ، عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئاً . فأوحي الله إليه : ليس الحاجة من الدنيا . فعلى هذا يكون قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبالٌ في