كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 263 """"""
الآخرة ، وهو أيضاً في الدنيا كذلك ، يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه ، وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلوه ، وربما يكونون أعداءً له ، وقد يستعينون به على المعاصي فيكون هو معيناً لهم عليها . ولذلك شبه جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز إذا لا يزال ينسج على نفسه حياً ثم يروم الخروج فلا يجد مخلصاً فيموت ويهلك بسبب عمله الذي عمله بنفسه ، فكذلك كل من اتبع شهوات الدنيا . قال الشاعر :
كدودٌ كدود القز ينسج دائماً . . . ويهلك غماً وسط ما هو ناسجه
قال : ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلكٌ نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك دود القز نفسه رفضوا الدنيا بالكلية ، حتى قال الحسن : رأيت سبعين بدرياً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم . وفي لفظٍ آخر : كانوا بالبلاء أشد فرحاً منكم بالخصب والرخاء ، لو رأيتموهم قلتم : مجانين ولو رأوا خياركم قالوا : ما لهؤلاء من خلاق ، ولو رأوا شراركم قالوا : ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب . وكان أحدهم يعرض له المال الحلال فلا يأخذه ويقول : أخاف أن يفسد علي قلبي . فمن كان له قلبٌ فهو لا محالة يخاف من فساده ، والذين أمات حب الدنيا قلوبهم فقد أخبره الله عنهم فقال : " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون " ، وقال تعالى : " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً " ، وقال تعالى : " فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " ، فأحال ذلك كله على الغفلة وعدم الفكر . وقال بعضهم : ما من يوم ذر شارقه إلا وأربعة أملاكٍ ينادون في الآفاق بأربعة أصواتٍ : ملكان بالمشرق وملكان بالغرب يقول أحدهم بالمشرق : يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشر أقصر . ويقول الآخر : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً . ويقول اللذان بالمغرب أحدهما : لدوا للموت وابنوا للخراب ، ويقول الآخر : كلوا وتمتعوا لطول الحساب .

الصفحة 263