كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)

"""""" صفحة رقم 264 """"""
ذكر بيان علامات الزهد
قال الغزالي رحمه الله تعالى : اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهدٌ ، وليس كذلك ، فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهلٌ على من أحب المدح بالزهد . فكم من الرهابين من ردوا أنفسهم كل يومٍ إلى نزرٍ يسيرٍ من الطعام ولازموا ديراً لا باب له ، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له ، فلذلك لا يدل على الزهد دلالةً قاطعةً ، بل لابد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا ، بل قد يدعي جماعةٌ الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال : وقومٌ ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من الثياب يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحقروا فيعطوا كما يعطى المساكين ويحتجون لأنفسهم باتباع العلم وأنهم على السنة وأن الأشياء داخلةٌ إليهم وهم خارجون منها ، وإنما يأخذون ما يأخذون بعلة غيرهم ، هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق . وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم ، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم ، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى . هذا كلام الخواص .
قال الغزالي رحمه الله : فإذاً معرفة الزهد أمرٌ مشكل ، بل حال الزهد على الزاهد مشكل ، فينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علاماتٍ : العلامة الأولى : ألا يفرح بموجود ، ولا يحزن على مفقود ، كما قال الله تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " ، بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك وهو أن يحزن لوجود المال ويفرح لفقده .
العلامة الثانية : أن يستوي عنده ذامه ومادحه ، فالأولى علامة الزهد في المال ، والثانية علامة الزهد في الجاه .
العلامة الثالثة : أن يكون أنسه بالله عز وجل ، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة ، إذ لا يخلو القلب من حلاوة المحبة ، إما محبة الدنيا وإما محبة الله ، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح ، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان ، وكل من أنس

الصفحة 264