كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . وقال تعالى : " إن الله يحب المتوكلين " ، وناهيك بذلك مقاماً . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم فقيل لي أرضيت قلت نعم قال ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حسابٍ قيل من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله تعالى مئونة رزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها " . وأما حقيقة التوكل فقد قال الغزالي رحمه الله : التوكل مشتقٌ من الوكالة يقال : وكل أمره إلى فلانٍ أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه . ويسمى الموكول إليه وكيلاً ، ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصيره ولم يعتقد فيه عجزاً ولا قصوراً . ثم قال بعد أن ضرب لذلك أمثلةً يطول شرحها : واعلم أن حالة التوكل في القوة والضعف ثلاث درجاتٍ : الأولى : أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل .
الثانية وهي أقوى : أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل في حق أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها ولا يعتمد إلا إياها ، فإن رآها تعلق في كل حالٍ بها ، وإن نابه أمرٌ في غيبتها كان أول سابقٍ إلى لسانه : يا أماه ، وأول خاطرٍ يخطر على قلبه أمه لوثوقه بكفالتها وكفايتها وشفقتها .
الثالثة وهي أعلاها : أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد لا يكون له حركةٌ ولا تدبير . قال : وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقةً بكرمه وعنايته ، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسأل . وقد تكلم المشايخ في التوكل وبيان حده واختلفت عباراتهم وتكلم كل واحدٍ عن مقام نفسه وأخبر عن حده .