كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
ومد اليد إليه سعيٌ وحركة ، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسفله ، فهذا جنونٌ وليس من التوكل في شيء ، فإنه إن انتظر أن الله تعالى يخلق فيه شبعاً دون الخبز أو يسخر ملكاً يمضغه ويوصله إلى معدته فهذا رجلٌ جهل سنة الله تعالى ، وكذلك لو لم يزرع الأرض وطمع أن الله تعالى يخلق نباتاً من غير بذرٍ أو تلد زوجه من غير مباضعةٍ كريم ، فكل ذلك جنون ، بل يجب عليه أن يعلم أن الله تعالى خالق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة ، وأنه الذي يطعمه ويسقيه ، وأن يكون قلبه واعتماده على فضل الله تعالى لا على اليد والطعام ، فليمد يده وليأكل فإنه متوكل .
والدرجة الثانية : الأسباب التي ليست متعينة ، ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها واحتمال حصولها دونها بعيدٌ كالذي يفارق الأمصار والقوافل ويسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً ويكون سفره من غير استصحاب زاد ، فهذا ليس شرطاً في التوكل ، بل استصحاب الزاد في البوادي سنة الأولين مع الاعتماد على فضل الله عز وجل لا على الزاد ، ولكن فعل ذلك جائز ، وهو من أعلى مقامات التوكل وهو فعل الخواص . قال الغزالي : فإن قلت : فهذا سعيٌ في الهلاك وإلقاء النفس إلى التهلكة ، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراماً بشرطين : أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها حتى صبرت عن الطعام أسبوعاً أو ما يقاربه بحيث إنه لا يناله ضيق قلبٍ ولا تشويش خاطر . والثاني أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء الخسيسة ، فإنه لا يخلو غالب الأمر في البوادي كل أسبوعٍ أن يلقاه آدميٌ أو ينتهي إلى محلةٍ أو قريةٍ أو إلى حشيشٍ يتقوت به ، وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين . وقد كان الخواص مع توكله لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ، ويقول : هذا لا يقدح في التوكل .
وأما لو انحاز إلى شعبٍ من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارقٌ فيه وجلس متوكلاٍ فهو آثمٌ به ساعٍ في إهلاك نفسه .