كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
وأما القاعد في البلد بغير كسبٍ فليس ذلك حراماً ، لأنه لايبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه . فإن أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحدٍ إليه ففعله ذلك حرام . فإن فتح باب البيت وهو بطالٌ غير مشغولٍ بعبادةٍ فالكسب والخروج له أولى ، ولكن ليس فعله حراماً إلا أن يشرف على الموت ، فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب . وإن كان مشغول القلب بالله غير متطلعٍ إلى الناس ولا إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزق ، بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات التوكل ، فإن الرزق يأتيه لا محالة . فلو هرب العبد من رزقه لطلبه كما لو هرب من الموت لأدركه . قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : اختلف الناس في كل شيءٍ إلا في الرزق والأجل فإنهم أجمعوا أن لا رازق ولا مميت إلا الله تعالى . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ولزالت بدعائكم الجبال " . وقال عيسى عليه السلام : انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر و الله تعالى يرزقها يوماً بيوم ، فإن قلتم نحن أكبر بطوناً ، فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الخلق للرزق . وقال أبو يعقوب السوسي : المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعبٍ منهم وغيرهم مشغولون مكدودون . وقال بعضهم : العبيد كلهم في رزق الله تعالى ، لكن بعضهم يأكل بذلٍ كالسؤال ، وبعضهم يأكل بتعبٍ كالتجار ، وبعضهم بامتهانٍ كالصناع ، وبعضهم بعزٍ كالصوفية ، يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة .
والدرجة الثالثة : ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقةٍ ظاهرة ، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه ، وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها ، وهو الذي الناس كلهم فيه من التكسب بالحيل الدقيقة اكتساباً مباحاً لمالٍ مباح . هذا ملخص ما أورده رحمه الله تعالى في جلب النافع ، ذكر لذلك أمثلةً ونظائر تركناها اختصاراً .
وأما حظ النافع فهو التعرض لأسباب الادخار ، فمن حصل له مالٌ بإرثٍ أو كسبٍ أو سؤالٍ أو سببٍ من الأسباب فله في الادخار ثلاث أحوالٍ :