كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
أما المقطوع به فليس من التوكل تركه بل تركه حرامٌ عند خوف الموت .
وأما الموهوم ، فشرط التوكل تركه ، إذ بتركه وصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المتوكلين ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لم يتوكل من استرقى واكتوى " . وقال سعيد بن جبيرٍ : لدغتني عقربٌ فأقسمت على أمي لتسترقين ، فناولت الراقي يدي التي لم تلدغ .
وأما الدرجة الوسطى وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء ففعل ذلك لا يناقض التوكل بخلاف الموهوم ، وتركه ليس بمحظورٍ بخلاف المقطوع به . وقد تداوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر بالتداوي وقال : " ما من داءٍ إلا وله دواءٌ عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام " يعني الموت ، وتضافرت الأحاديث بالأمر بالدواء .
ومنهم من رأى أن ترك التداوي قد يحمد في بعض الأحيان إذا اقترن به أحد أسبابٍ ستةٍ : الأول : أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى اجله وأن الدواء لا ينفعه ، وتحقق ذلك إما برؤيا صادقةٍ أو بحدسٍ وظنٍ أو بكشفٍ محققٍ كحال أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه لما قيل له في مرض موته : لو دعونا لك طبيباً ؟ فقال : الطبيب نظر إلي وقال إني فعالٌ لما أريد . وكان رضي الله عنه من المكاشفين ، والدليل على ذلك أنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث : إنما هن أختاك ، وما كان لها إلا أختٌ واحدةٌ وكانت امرأته حاملاً فولدت أنثى ، فلا يبعد أن يكون كوشف بانتهاء أجله ، ومحالٌ أن ينكر التداوي وقد رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعله .
الثاني : أن يكون المريض مشغولاً بحاله وبخوف عاقبته وإطلاع الله تعالى عليه ، فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرغ قلبه للتداوي شغلاً بحاله ، كحال أبي ذرٍ لما رمدت عيناه ، فقيل له : لو داويتهما فقال : إني عنهما مشغولٌ . فقيل له لو سألت الله أن يعافيك فقال : أسأل فيما هو أهم علي منهما . وكحال أبي الدرداء فإنه قيل له في مرضه : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي . قيل : فما تشتهي ؟ قال : مغفرة ربي . قالوا : ألا ندعو لك طبيباً ؟ قال : الطبيب أمرضني . ويكون حال هذا كالمصاب بموت عزيزٍ أو كالخائفٍ من ملكٍ فيشغله ذلك عن ألم الجوع .