كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 5)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وحكى أبو حشيشة قال : كنت يوماً عند بذل وأنا غلام ، وذلك في أيام المأمون وهو ببغداد ، وهي في طارمة لها تتمشط ، فخرجت إلى الباب فرأيت الموكب فظننت أن الخليفة يمر على ذلك الموضع ، فرجعت إليها فقلت : يا سيدتي ، الخليفة يمر على بابك . فقالت : انظروا أي شيءٍ هذا ، إذ دخل بوابها فقال : علي بن هشام بالباب . فقالت : وما أصنع به فقامت إليها جاريتها وشيك ، وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره في حوائجها ، فأكبت على رجلها وقالت : الله الله أتحتجبين على علي بن هشام فدعت بمنديلٍ فطرحته على رأسها ولم تقم إليه . فقال : إني جئتك بأمر سيدي أمير المؤمنين ، وذلك أنه سألني عنك فقلت له : لم أرها منذ أيام ، فقال : هي عليك غضبى ، فبحياتي لا تدخل منزلك حتى تدخل إليها فتسترضيها . فقالت : إن كنت جئتنا بأمر الخليفة فأنا أقوم ، فقامت فقبلت رأسه ويديه ، وقعد ساعةً وانصرف . فقالت : يا وشيك ، هاتي الدواة وقرطاساً ففعلت ، فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثني عشر ألف صوت - وقيل : سبعة آلاف صوت - ثم كتبت إليه : يا علي بن هشام ، تقول : استغنيت عن بذلٍ بأربعة آلاف صوت أخذناها منها وقد كتبت هذا وأنا ضجرة ، فكيف لو فرغت لك قلبي كله . وختمت الكتاب وقالت لها : امضي به إليه . فما كان أسرع من أن جاء رسوله خادمٌ أسودٌ يقال له مخارق بالجواب يقول فيه : يا سيدتي ، لا والله ما قلت الذي بلغك ، ولقد كذب علي عندك ، إنما قلت : لا ينبغي أن يكون في الدنيا أكثر من أربعة آلاف صوت ، وقد بعثت إلي بديوانٍ لا أؤدي شكرك عليه أبداً ، وبعث إليها بعشرة آلاف درهم وتخوتٍ فيها بز ووشي وملح وتختاً مطبقاً فيه أنواع الطيب .
وقيل : إن إبراهيم بن المهدي كان يعظمها ، ثم يرى أنه يستغني عنها بنفسه . فصارت إليه ، فدعت بعودٍ فغنت في طريقةٍ واحدةٍ وانقطاعٍ واحدٍ وإصبعٍ واحدةٍ مائة صوتٍ لم يعرف إبراهيم منها صوتاً واحداً ، ثم وضعت العود وانصرفت ، ولم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه .
وقال أحمد بن سعيد المالكي : إن إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلاً في نسبة صوتٍ غنته بحضرة المأمون ، فأمسكت عنه ساعةً ثم غنت ثلاثة أصواتٍ في