كتاب الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء

في معتقدهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، فهم بنبيّهم محمد صلى الله عليه وسلم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، ولطريقته مقتفون، وعن الأهواء والبدع المضلّة معرضون، وعلى الصراط المستقيم والمحجّة البيضاء سائرون، يوصي بذلك أولُهم آخرَهم، ويقتدي اللاحقُ بالسابق؛ ولهذا "لو طالعتَ جميع كتبهم المصنّفة من أوّلهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم - مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كلّ واحد منهم قطراً من الأقطار - وجدتَهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمطٍ واحد، يجرون فيه على طريقة واحدة، لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً، ولا تفرّقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعتَ جميعَ ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنّه جاء من قلب واحد، وجرى على لسانٍ واحد"1، والسبب في ذلك هو لزوم الجميع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبُعدُهم عن الأهواء والبدع، فهم كما قال الأوزاعي - رحمه الله -: "ندور مع السنة حيث دارت"2، فهذا شأنهم وديدنُهم، يدورون مع السنة حيث دارت نفياً أو إثباتاً، فلا يثبتون إلاَّ ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا ينفون إلاَّ ما نفي في الكتاب والسنة، لا يتجاوزون القرآن والحديث.
وهؤلاء الأئمة لم يكفّوا عن الخوض فيما خاض فيه من سواهم لعجز منهم عن ذلك أو لضعف وعدم قدرة بل الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: " ... فإنَّ السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا"3. ومن كان على نهج هؤلاء فهو في طريق آمنة
__________
1 الحجة للتيمي (2/224،225) ، وهو من كلام أبي المظفر السمعاني.
2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (1/64) .
3 رواه ابن بطّة في الإبانة (1/321) .
(كتاب السنة والرد على الجهمية) للأثرم، ولعبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي داود السجستاني، وعبد الله بن محمد الجعفي، والحكم بن معبد الخزاعي، وحشيش بن أصرم النسائي، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبي بكر الخلاّل، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسّال، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي حفص بن شاهين، ومحمد بن إسحاق بن منده، وأبي عبد الله بن بطة، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي ذر الهروي، وأبي محمد الخلاّل، والبيهقي، وأبي عثمان الصابوني، وأبي نصر السجزي، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التيمي، وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين، ما يُعلم معه بالاضطرار أنَّ الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنَّهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلوِّ الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأنَّ القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه.
وهذا يصير دليلا من وجهين:
أحدهما: من جهة إجماع السلف، فإنَّهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على خطأ، فكيف في الأصول؟
الثاني: من جهة أنَّهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك.
ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولاً بالإثبات وإنكاراً لقول النفاة، كما قال يزيد بن هارون الواسطي: "من قال: إنَّ الله على

الصفحة 16