كتاب الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء

وسبيل سالمة، قال محمد بن سيرين - رحمه الله -: "كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر فهو على الطريق"1.
ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا القدر من الأهمية أحببت أن أقدّم دراسة لأحد الآثار المرويّة عن السلف الصالح - رحمهم الله - في تقرير التوحيد وردّ البدع والأهواء؛ ليكون - إن شاء الله - أنموذجاً للتدليل على عِظم فائدة العناية بآثار السلف وعظم ما يحصله من عُنيَ بذلك من فوائد وثمار ومنافع.
ولهذا نشطت في إعداد هذه الدراسة للأثر المشهور عن الإمام مالك - رحمه الله - عند ما جاءه رجل وقال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، فتأثّر مالك – رحمه الله - من هذه المسألة الشنيعة وعلاه الرحضاء [أي العَرَق] ، وقال في إجابته لهذا السائل: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر بالسائل أن يُخرج من مجلسه، وهو أثر عظيمُ النفع جليلُ الفائدة.
ويمكن أن أحدِّد أهمّ الدوافع التي شجّعت لتقديم هذه الدراسة لهذا الأثر خاصة في النقاط التالية:
أوّلاً: أنَّ هذا الأثر قد تلقّاه الناس بالقبول، فليس في أهل السنة والجماعة من ينكره، كما يذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -2، بل إنَّ أهل العلم قد ائتمّو به واستجودوه واستحسنوه3.
ثانياً: أنَّه من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعاباً؛ لأَنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعلوم في اللغة على وجه يليق بالله عز وجل4.
__________
1 رواه ابن بطة في الإبانة (1/357) .
2 مجموع الفتاوى (13/309) .
3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/520) .
4 انظر: مجموع الفتاوى (5/520) .
العرش استوى خلاف ما يقرّ في نفوس العامة فهو جهمي"1.
وقال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقرُّ بأنَّ الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته"2 3.
قال الإمام الصابوني رحمه الله: "وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أنَّ الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سماواته، يُثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به ويُصدِّقون الرب جلّ جلاله في خبره، ويُطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش ويُمرُّونه على ظاهره ويَكِلون علمه إلى الله، ويقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} 4، كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنَّهم يقولون ذلك ورَضِيَه منهم فأثنى عليهم به"5.
وبما تقدّم يتّضح أنَّ مراد الإمام مالك رحمه الله بقوله: "الاستواء غير مجهول" أي غير مجهول المعنى، وأنَّه ثابت لله حقيقة على وجه يليق بجلاله سبحانه.
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه ذم التأويل: "وقولهم: "الاستواء غير
__________
1 رواه البخاري في خلق أفعال العباد (ص:24) ، وعبد الله في السنة (1/123) ، وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش (ص:84) ، ثم نقل عن شيخ الإسلام في بيان معناه أنَّه قال: "والذي تقرّر في قلوب العامة هو ما فطر الله تعالى عليه الخليقة من توجّهها إلى ربِّها تعالى عند النوازل والشدائد والدعاء والرغبات إليه تعالى نحو العلوّ لا يلتفت يمنة ولا يسرة من غير موقف وقفهم عليه، ولكن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما من مولود إلاَّ وهو يولد على هذه الفطرة حتى يجهمه وينقله إلى التعطيل من يقيّض له".
2 رواه البيهقي في الأسماء والصفات (2/304) ، قال شيخ الإسلام في الحموية (ص:23) : "بإسناد صحيح".
3 درء التعارض (7/108،109) .
4 سورة: آل عمران، الآية: (7) .
5 عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص:37) .

الصفحة 17