كتاب الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء

الموضع السادس في سورة السجدة في قوله تعالى: {أَمْ يَقولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَآءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكْمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 1.
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال.
الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 23.
أما النوع الثاني: وهو مجيئها معدّاة بـ (إلى) فقد ورد في القرآن في موطنين:
__________
1 سورة السجدة، الآيات: (3 9) .
2 سورة الحديد، الآيات: (3،4) .
3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص:15 17) .
الأقلام، ولم تنفد كلماته، الذي لو أنَّ الخلق من أول الدنيا إلى آخرها، إنسهم وجِنَّهم، وناطقهم وأعجمهم، جُعلوا صفًّا واحداً ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثمّ يهزّهنَّ، ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطّلة! أين التشبيه ها هنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحلَّ ها هنا كلُّ موجود سواه، فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه فيه، فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاّها ما تولّت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها.
ولما فهمت هذه الطائفة من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين، فرَّت إلى إنكار حقائقها، وابتغاء تحريفها، وسمَّته تأويلاً، فشبّهت أوَّلاً، وعطّلت ثانياً، وأساءت الظنَّ بربِّها وبكتابه وبنبيِّه، وبأتباعه"1.
ثم بيّن رحمه الله وجه إساءة هؤلاء الظنّ بربِّهم وكتابه ونبيّهم وأتباعه.
وقال الجويني في رسالته (النصيحة في صفات الرب جلَّ وعلا) : "وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة له من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه، أعمى من وجه، مبصراً من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد، وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه، وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف، وذلك هو مراد الله تعالى مِنَّا في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها، ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه، ولا نعطلها بالتحريف والتأويل، لا فرق بين الاستواء والسمع، ولا بين النزول والبصر، لأنَّ الكلَّ ورد في النص"2.
__________
1 مدارج السالكين (3/359،360) .
2 النصيحة في صفات الرب جلَّ وعلا للجويني (الصلاة: 39، 40) ، وانظر: ذمّ التأويل لابن قدامة (ص:15) .

الصفحة 29