كتاب المداراة وأثرها في العلاقات العامة بين الناس

ومن حكمة الباري عز وجل أن جعل كثيرًا من المصالح الدنيوية مرتبطًا بعضها ببعض، ومكمّلاً بعضها بعضًا، فلا يمكن لإنسان تحقيق مصلحة ذاتية من كثير من الأشياء إلاّ بمساعدة غيره. ولا يستطيع إنسان الاكتفاء ذاتيًا في جميع حاجاته في الحياة دون الاستعانة بغيره، سواء كان بطريق مباشر، أو غير مباشر.
وجعل الله النّاس على درجات متفاوتة، ومختلفة من الذكاء، والفطنة، فهم يتفاوتون أيضًا في الجمع والتحصيل، ولا يتّفقون في القدْر والنوع.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَاءَاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام / 165] .
والضعيف يتودد إلى القوي لتحقيق منافعه الذاتية، والقوي يبذل من ماله، وسطوته ما يؤمن حصوله على حاجته، فينشأ من هذا الصراع في هذا المجال وغيره من مجالات الحياة المعيشية المختلفة، تَفَتُّق الأذهان عن البحث في شتى الطرق، والوسائل المؤدية إلى تأمين ما يحتاجه النّاس من تحقيق مصالحهم فيما بينهم. وهم في ذلك - يختلفون في الأسلوب، والنهج، ونوع الإرادة، ودرجة الصبر، وقوّة اليقين، وقدرة التحمّل. وعلى سبيل المثال:
أ - الإنسان كلما قَصَرَ حاجات نفسِه المعيشية على الضروري منها، عاش بعيدًا عن المهاترات الَّتِي تزري به، وحفِظ لقدْره، ولكرامته علوّ المكانة، ووفّر على نفسه الجهد والمشقّة في اللجوء إلى أكثر أساليب (المداراة) ، وقلَّل من فتن الدنيا عليه، وزخرفها، وزينتها.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ " 1.
__________
1 أخرجه الترمذي في الزهد، باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الألباني في صحيح سنن التِّرمذيّ (2/266) : حسن.

الصفحة 270