كتاب المداراة وأثرها في العلاقات العامة بين الناس

وموقف يوسف عليه السلام مع إخوته الذين اتّهموه بالسرقة واتهموا شقيقه في قولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف / 77] . كان موقفًا حكيمًا، يتّسم صاحبه ببعد النظر وقوّة الإرادة من التحكم في النّفس ورغباتها، عند أصعب ساعات الإثارة والطغيان.
فهو أمام تهمة خطيرة، مخلّة بالشرف، ومخالفة للمروءة، ومن أقرب النّاس إليه، وكان يستطيع أن ينتقم لنفسه منهم، وأن يوقع بهم أشدّ العقوبة لمكانته الاجتماعية المتميّزة عند ملك مصر.
وقبل ذلك ما فعلوا به من إلقائه في الجبِّ، وحرمانه من أبويه، وتصييره رقيقًا.
فقد سنحت الفرصة، وقد أصبح وزيرًا للملك، وبيده خزائن الأرض، وجاءه إخوته مع من جاء من الفقراء المعْوزين يطلبونه رزقًا بعد أن مسَّهم وأهلهم الضرُّ. ولكنه كان نبيًّا كريمًا، حكيمًا {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف / 77] .
فقد كان عليه السلام واثقًا من ربّه، ومتحصّنًا بإيمانه، فلو أخذته العزة بالإثم لأمر من يفتك بهم، أو أن يطردهم شرّ طردة، وكان محقًا.
ولكنه أدرك عليه السلام بأنّ فقدهم سيزيد من ألم أبيه وحزنه، وأساه.
وأَدركَ أَيضًا أنّ للشيطان دورًا فيما وقع بينه وبين إخوته، فلا ينبغي أن يكون عونًا له على ما أراد.
فكظم غيظه، وعفا عنهم، بعد أن عرّفهم بخطئهم، وأَبَرَّ بوالديه، وجمع شمل أسرته.
وما كان ذلك ليتحقق لولا مشيئة الله، ثمَّ الصَّبر والملاينة، وشيء من

الصفحة 284