كتاب رعاية المصلحة والحكمة في تشريع نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)

وَهَذِه التَّفْرِقَة بَين الْحِكْمَة وَالْعلَّة وَالسَّبَب اصْطِلَاح حَادث، أما القدماء فقد استعملوا الْحِكْمَة مرادفة لقصد الشَّارِع أَو مَقْصُوده، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَقْصُوده كَذَا، أَو حكمته كَذَا، فَلَا فرق، وَإِن كَانَ استعمالهم للفظ الْحِكْمَة أَكثر من استعمالهم للفظ الْمَقْصد. قَالَ الونشريسي1: " ... الْحِكْمَة فِي اصْطِلَاح المتشرعين: هِيَ الْمَقْصُود من إِثْبَات الحكم أَو نَفْيه وَذَلِكَ كالمشقة الَّتِي شُرع الْقصر والإفطار لأَجلهَا"2.
وَقد يَبْدُو فِي هَذَا الْكَلَام شَيْء من الْإِشْكَال - كَمَا يَقُول الدكتور الريسوني وَهُوَ: هَل الْمَشَقَّة حِكْمَة ومقصود؟ وَالْجَوَاب: إِن الْكَلَام فِيهِ حذف، وَمرَاده: أَن رفع الْمَشَقَّة عَن الْمُسَافِر هُوَ مَقْصُود الحكم وحكمته، وَقد نبه على هَذَا الأصولي الْحَنَفِيّ شمس الدّين الفناري3 حَيْثُ قَالَ: "أما مَا يُقَال فِي رخص السّفر: أَن السَّبَب السّفر، وَالْحكمَة الْمَشَقَّة، وَأَمْثَاله، فَكَلَام مجازي، وَالْمرَاد أَن الْحِكْمَة الباعثة دفع مشقة السّفر"4.
ويؤكد الدكتور بدران أَبُو الْعَينَيْنِ بدران هَذَا التطابق بَين مَقْصُود الحكم وحكمته فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء فَيَقُول: "على أَن جُمْهُور الْفُقَهَاء كَانُوا يذهبون فِي اجتهاداتهم إِلَى أَن مَا شَرعه الله من أَحْكَام، لم يشرعه الله إِلَّا لمصْلحَة جلب مَنْفَعَة لَهُم أَو دفع مضرَّة عَنْهُم، فَلهَذَا كَانَت تِلْكَ الْمصلحَة هِيَ الْغَايَة الْمَقْصُودَة من
__________
1 - أَحْمد بن يحي بن عبد الْوَاحِد، فَقِيه أديب خطيب مالكي وَانْظُر تَرْجَمته فِي شَجَرَة النُّور الزكية 1/274.
2 - المعيار 1 / 349.
3 - مُحَمَّد حَمْزَة الفناري، فَقِيه أصولي حَنَفِيّ (ت 834?) .
4 - فُصُول البديع فِي أصُول التشريع 2 / 371 عَن نظرية الْمَقَاصِد ص 21.

الصفحة 203