كتاب الآثار التربوية لدراسة اللغة العربية

والحكمة هي زبدة التجارب والمعارف، صيغت في قوالب أدبية رفيعة، إذا أخذ بها الفرد صنعت منه شخصية موضوعية فاعلة مؤثرة، نتيجة التطبيق الصحيح لما عرف من الحِكَمِ التي أثرى بها معارفه، فأكسبته خبرة لا عن مواقف وإنما عن عظات وعبر، سمع بها وقرأها وطبقها.
ولذلك فإن (العاقل ينظر فيما يؤذيه، وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلاً ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة، والساعات على الساعة) 1.
وكم من الأفراد يفوتهم شيءٌ كثيرٌ من هذا، فيفضل ساعات الراحة التي يعقبها أضعافها من التعب والمشقة. فيبدد شبابه وقوته في لذات زائلة، يشقى بها في شيخوخته، وكم من شخص ينظر لساعات الدنيا ولذتها وهي زائلة، ويقصر النظر عن لذات الآخرة وديمومتها وهي الباقية، فلا موضوعية مبنية على حكمة عند هذا النوع.
وكم من أفراد كانوا ضد ذلك، بما علموا وعملوا من حكمة وموضوعية التعامل، وقياس الأعمال والأقوال بنتائجها اليانعة وإن كانت آجله.
وعند العقلاء (كلمة حكمة من أخيك خير من مال يعطيك؛ لأن المال قد يطغيك والكلمة من الحكمة تهديك) 2.
وهنا يتباين الناس في تقديم الحكمة والمال كتباين الليل والنهار، فمنهم من يفرح بالمال ولو كان على جهل، ويقدمه على العلم والحكمة، وأناس نظروا للعلم نظرة الاعتزاز؛ لأنه ذلول الحكمة وقدموه على المال، فجاءتهم الحكمة والمال، فظفروا بالاثنين معاً.
__________
1 ابن المقفع، الأدب الصغير، والأدب الكبير، ص (15) .
2 علي عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة، ص (13) .

الصفحة 499