كتاب وقفات مع أحاديث تربية النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته

يتَمَثَّل ذَلِك فِي الصُّور الرائعة لجهادهم وبذلهم نُفُوسهم رخيصة فِي سَبِيل الله روى البُخَارِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: ((لما طُعِن حَرَام بن ملْحَان ـ وَكَانَ خَاله ـ يَوْم بِئْر مَعُونَة، قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا، فنضحه على وَجهه وَرَأسه ثمَّ قَالَ فزت وَرب الْكَعْبَة)) (1) وَأخرج البُخَارِيّ أَيْضا قصَّة عُمَيْر بن الْحمام رَضِي الله عَنهُ فِي غَزْوَة أحد حينما قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَرَأَيْت إِن قتلت فَأَيْنَ أَنا؟ قَالَ فِي الْجنَّة. فَألْقى تمرات فِي يَده ثمَّ قَالَ: لَئِن حييت حَتَّى آكل تمراتي هَذِه إِنَّهَا لحياة طَوِيلَة ثمَّ قَاتل حَتَّى قتل)) (2) وَهَكَذَا نرى هَذِه الثَّمَرَة الْعَظِيمَة للتربية النَّبَوِيَّة بِحَيْثُ يبْذل الْمَرْء نَفسه رخيصة فِي سَبِيل الله ويبيعها لله تَعَالَى، فَمَا أعظم هَذِه التربية، وَفِي الْمُقَابل نرى كثيرا من الْأَحَادِيث عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزهد فِي الدُّنْيَا وَتبين حقارتها، وَفِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة ألَّفت فِيهَا مؤلفات كالمؤلفات فِي الزّهْد. اسْتمع إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يضْرب مثلا للدنيا بِالنِّسْبَةِ للآخرة فَيَقُول: ((وَالله مالدنيا فِي الْآخِرَة إلامثل مَا يَجْعَل أحدكُم إصبعه فِي اليم فلينظربم يرجع)) رَوَاهُ مُسلم (3) وَتَأْتِي آيَات الْقُرْآن قبل ذَلِك مؤكِّدة هَذَا الْمَعْنى يَقُول تَعَالَى {اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بَيْنكُم وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته ثمَّ يهيج فتراه مصفرَّاً ثمَّ يكون حطاماً وَفِي الْآخِرَة عذابٌ شَدِيد ومغفرةٌ من الله ورضوان وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور} (4) لَكِن من الْمَعْلُوم أَن الْإِسْلَام لَا يغْفل أَمر الْعَمَل للدنيا
__________
(1) صَحِيح البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة الرجيع فتح (7 / 386)
(2) صَحِيح البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة أحد (7 / 354) وَأخرج قصَّته مُسلم لَكِن فِيهَا أَن ذَلِك كَانَ فِي غَزْوَة بدر..
(3) صَحِيح مُسلم ك: الْجنَّة وَصفَة نعيمها وَأَهْلهَا ب: فنَاء الدُّنْيَا ح (2858) (4/2193
(4) سُورَة الْحَدِيد آيَة / رقم: 20.

الصفحة 116