كتاب مباحث الأمر التي انتقدها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى

الْمطلب الثَّالِث: الِاخْتِيَار فِي الْمَسْأَلَة:
وَالصَّوَاب أَن ذَلِك مُمكن فِي الْعقل فَأَما الْوُقُوع السمعي فَيرجع فِيهِ إِلَى دَلِيله1 وَذَلِكَ أَن كَون الْفِعْل الْوَاحِد محبوباً مَكْرُوها، مرضياً مسخوطاً، مَأْمُورا بِهِ مَنْهِيّا عَنهُ، مقتضياً للحمد وَالثَّوَاب والذم وَالْعِقَاب، لَيْسَ هُوَ من الصِّفَات اللَّازِمَة كالأسود والأبيض، والمتحرك والساكن، والحي وَالْمَيِّت وَإِن كَانَ فِي هَذِه الصِّفَات كَلَام أَيْضا وَإِنَّمَا هُوَ من الصِّفَات الَّتِي فِيهَا إِضَافَة متعدية مثل كَون الْفِعْل نَافِعًا وضاراً، ومحبوباً ومكروهاً والنافع هُوَ الجالب للذة2 والضار هُوَ الجالب للألم3 وَكَذَلِكَ المحبوب هُوَ الَّذِي فِيهِ فَرح وَلَذَّة للمحب مثلا وَالْمَكْرُوه هُوَ الَّذِي فِيهِ ألم للكاره وَلِهَذَا كَانَ الْحسن والقبح الْعقلِيّ مَعْنَاهُ: الْمَنْفَعَة والمضرة4 وَالْأَمر وَالنَّهْي يعودان إِلَى الْمَطْلُوب وَالْمَكْرُوه فَهَذِهِ صفة فِي الْفِعْل مُتَعَلقَة بالفاعل أَو غَيره وَهَذِه صفة فِي الْفِعْل مُتَعَلقَة بالآمر الناهي وَلِهَذَا قلت غير مرّة5: إِن
__________
1 - هَذَا بَيَان للإمكان الْعقلِيّ، وَقد اسْتدلَّ الْجُمْهُور على الْإِمْكَان الْعقلِيّ بِأَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ خطّ هَذَا الثَّوْب وَلَا تدخل هَذِه الدَّار، فخاط العَبْد الثَّوْب فِي الدَّار الْمنْهِي عَنْهَا، يقطع بِطَاعَتِهِ من جِهَة أَن خاط وبمعصيته من جِهَة أَنه خاط فِي الدَّار، فَيكون فعل الْخياطَة مَأْمُورا بِهِ مَنْهِيّا عَنهُ من جِهَتَيْنِ فَدلَّ ذَلِك على الْقطع بِجَوَاز ذَلِك عقلا.
انْظُر بَيَان الْمُخْتَصر 1/380.
2 - وَهِي الْمصلحَة. انْظُر مِفْتَاح دَار السَّعَادَة 2/14 وقواعد الْأَحْكَام 1/12 والفوائد فِي اخْتِصَار الْمَقَاصِد 35
3 - وَهِي الْمفْسدَة. انْظُر المراجع السَّابِقَة.
4 - قَالَ الْعِزّ بن عبد السَّلَام فِي الْفَوَائِد 37: “ويعبر عَن الْمصَالح والمفاسد بالمحبوب وَالْمَكْرُوه، والحسنات والسيئات، وَالْعرْف والنكر، وَالْخَيْر وَالشَّر، والنفع والضر، وَالْحسن والقبيح”.
5 - وَمن ذَلِك قَوْله رَحمَه الله فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى 8/434 - 436: - “قد ثَبت بِالْخِطَابِ وَالْحكمَة الْحَاصِلَة من الشَّرَائِع ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: أَن يكون الْفِعْل مُشْتَمِلًا على مصلحَة أَو مفْسدَة وَلَو لم يَرِد الشَّرْع بذلك كَمَا يعلم أَن الْعدْل مُشْتَمل عل مصلحَة الْعَالم، وَالظُّلم يشْتَمل على فسادهم فَهَذَا النَّوْع هُوَ حسن وقبيح. وَقد يعلم بِالْعقلِ وَالشَّرْع قبح ذَلِك لَا أَنه أثبت للْفِعْل صفة لم تكن، لَكِن لَا يلْزم من حُصُول هَذَا الْقبْح أَن يكون فَاعله معاقباً فِي الْآخِرَة إِذا لم يَرِد شرع بذلك ...
النَّوْع الثَّانِي: أَن الشَّارِع إِذا أَمر بِشَيْء صَار حسنا وَإِذا نهى عَن شَيْء صَار قبيحاً واكتسب الْفِعْل صفة الْحسن والقبح بخطاب الشَّارِع.
النَّوْع الثَّالِث: أَن يَأْمر الشَّارِع بِشَيْء ليمتحن العَبْد هَل يطيعه أم يعصيه وَلَا يكون المُرَاد فعل الْمَأْمُور بِهِ ... فالحكمة منشؤها من نفس الْأَمر لَا من نفس الْمَأْمُور بِهِ ...
وَأما الْحُكَمَاء وَالْجُمْهُور فأثبتوا الْأَقْسَام الثَّلَاثَة وَهُوَ الصَّوَاب” انْتهى.
وسأبسط هَذِه الْمَسْأَلَة فِي بحث قادم إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

الصفحة 405