كتاب مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور

الْمَعْنى، يَنْفِي أيَّ تنافرٍ أَو تباعدٍ بَين الْآيَات، وسرعان مَا يطمئنُّ الْمَرْء إِلَى وجود صلَة، وَحُصُول علاقَة، وتوفر مُنَاسبَة، وَهَذَا مَا يوحي بِهِ قَول الباقلاني: ((.. هَذَا خروجٌ لَو كَانَ فِي غير هَذَا الْكَلَام لتُصوِّر فِي صُورَة الْمُنْقَطع.. وَقد تمثل فِي هَذَا النّظم لبراعته وَعَجِيب أمره، وموقع لَا ينفكُّ مِنْهُ القَوْل)) (1) مُشِيرا بذلك إِلَى الترابط والتلاحم الَّذِي يقوم عَلَيْهِ النّظم القرآني (2) .
وثمَّةَ أمرٌ آخرٌ تجدر الْإِشَارَة إِلَيْهِ أَيْضا، وَهُوَ أَن ترجيحي مَا رجحت لَا يَنْفِي مَا قد يكون من صِحَة غَيره مِمَّا ذكرتُ - أَو مِمَّا لم أقع عَلَيْهِ - وَذَلِكَ أَن السُّورَة أَو الْجُمْلَة من الْقُرْآن الْمجِيد قد تحْتَمل أَكثر من وجهٍ فِي بَيَان نظامها وارتباطها، وَلَا بَأْس بِتَعَدُّد هَذِه الْوُجُوه - مَا لم تؤدِّ إِلَى تعارضٍ أَو تناكُرٍ - لِأَن الْقُرْآن مبنيٌّ على تعدُّد الدّلَالَة (3) .. وَكَيف لَا، وَهُوَ كَلَام الله الآخر إِلَى البشرية حَتَّى قيام السَّاعَة؟ ! فَلَا تزَال دَائِرَة دلالاته تتسع وتتنوع، وَلَا يزَال مجَال الْأَخْذ مِنْهُ يتراحب، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الْكَهْف / 110) .
__________
(1) إعجاز الْقُرْآن، ص 209
(2) انْظُر فِي ذَلِك: فِي الدراسات القرآنية …، د. السَّيِّد أَحْمد عبد الْغفار، ص 93
(3) انْظُر فِي ذَلِك: دَلَائِل النظام، ص 79
ثَانِيًا: التناسب فِي السُّورَة الْوَاحِدَة:
ثمَّة أُمُور عدَّة يُنظر إِلَيْهَا عِنْد بَيَان تناسب السُّورَة الْوَاحِدَة، وَمِنْهَا: تَحْدِيد (شخصية السُّورَة) ، وتحديد (عمودها) الَّذِي تقوم عَلَيْهِ، وإبراز مقاصدها الْكُلية، ومناسبة فَاتِحَة السُّورَة لخاتمتها، ومناسبة اسْمهَا لموضوعها الرئيس.
وسوف أحاول أَن أنظر فِي هَذِه الْمسَائِل على ضوء مثالٍ تطبيقي.. وَليكن

الصفحة 122