كتاب مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور

وَالثَّالِث: إكثار الْوُجُود فِي التَّأْوِيل، وإكثار الجدل وَقَالَ وَقيل. وَذَلِكَ بِأَن النّظم إِنَّمَا يجْرِي على وَحْدةٍ، فبحسب مَا تكثّرت الْوُجُوه تعذَّر استنباط النظام. فَمن نظر فِي هَذِه الْوُجُوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة؛ تحيَّر.. لَا يدْرِي مَاذَا يخْتَار مِنْهَا، وَأصْبح فِي حُجُبٍ عَن النّظم الَّذِي يجْرِي من كل جملةٍ فِي وَجه وَاحِد، كمن سلك طَرِيقا.. يُصَادف فِي كل غَلوةٍ مِنْهُ طرقاً شَتَّى {
وَلما كَانَ ذَلِك - ولأسبابٍ أُخر - شرطنا أَن نقنع بِوَجْه واحدٍ صَحِيح ظَاهر، يَنْتَظِم بِهِ الْكَلَام، وَلم نجده إِلَّا أحسنَها تَأْوِيلا، وأبلغها بَيَانا.. وَهَذَا مَبْسُوط فِي مَوْضِعه. وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ هَاهُنَا من جِهَة أَن إكثار الْوُجُوه من أكبر الحُجُب على فهم النظام، بل عدم التمسُّك بالنظام هُوَ أكبر سَبَب للولوع بِكَثْرَة التَّأْوِيل، فَإِن النّظم هُوَ الَّذِي يوجهك إِلَى الْوَجْه الصَّحِيح. وَالسَّلَف - رَحِمهم الله - لم يجمعوا وُجُوهًا، بل كلٌّ مِنْهُم ذهب إِلَى أمرٍ وَاحِد، وَإِنَّمَا شاع إكثارُ الْوُجُوه فِي الْخلف. وَكَذَا يكون الْأَمر فِي كل علم إِذا كثرت الْكتب، ودوِّن الْعلم، وَسَهل الطَّرِيق، فيحرصون على التبحُّر، وَيَرْفُضُونَ الرسوخ وَالتَّحْقِيق فِي
__________
فِي كتاب الفراهي النفيس هَذَا كثير من الإشارات المهمة فِي هَذَا الصدد، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى أَن يتخفف طَالب الْهِدَايَة من الْقُرْآن الْمجِيد من ثقَل هَذِه المرويات مَا اسْتَطَاعَ، حَتَّى يخلُصَ إِلَى الْحِكْمَة المستكنَّة فِي آيَات الله الْبَينَات، الَّتِي هِيَ - وَحدهَا، لَا تأويلات النَّاس واحتمالاتهم‍} - الهدايةُ والنور.

الصفحة 39