كتاب مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور

فنٍّ وَاحِد. فيحسبون تَكْثِير الْأَقَاوِيل والمذاهب علما، وهم خِلْوٌ عَنهُ، كَمَا قيل: ((طلبُ الْكل؛ فوتُ الْكل)) ‍. فَمن اشْتغل بالتفسير وجده بحراً متلاطماً من الْأَقْوَال، وَحفظه هَذِه الْأَقَاوِيل يمنعهُ عَن مَسْلَك النظام من جِهَة نفاد فرصته ومُنَّته، وَمن جِهَة أَن النظام قد خَفِي وضلّ عَنهُ فِي شتات الْوُجُوه الْكَثِيرَة. بل لَو رفض هَذِه الْكتب كلَّها، وَأخذ طَرِيق السّلف - رَحِمهم الله -؛ فتدبَّر الْقُرْآن، وَالْتمس الْمُطَابقَة بَينه وَبَين السّنة الثَّابِتَة - لَكَانَ أقرب إِلَى معرفَة النظام وصحيح التَّأْوِيل.
وَالرَّابِع - وَهُوَ قريب من الثَّالِث -: تحزُّب الْأمة فِي فرقٍ وشيعٍ قد ألجأهم إِلَى التمسُّك بِمَا يؤيدهم من الْكتاب. فِرَاق لَهُم تَأْوِيله الْخَاص، سَوَاء كَانَ بِظَاهِر القَوْل، أَو بِإِحْدَى طرق حمل الْكَلَام على بعض المحتملات، وَلَا يخفى أَن غَلَبَة رأيٍ وتوهُّم يَجْعَل الْبعيد قَرِيبا، والضعيف قَوِيا، وَكَذَلِكَ يفعل كل فريق.. فَلِكُل حزبٍ تَأْوِيل حسب مذْهبه ‍! وحينئذٍ لَا يُمكن مُرَاعَاة النظام؛ فَإِن الْكَلَام لَا بُد لَهُ من سِيَاق، وَلَا بُد لأجزائه من موقع يَخُصُّهُ. فَلَو راعوا النظام، ظهر ضعف مَا يمليه ويجذبه إِلَى غير مساقه. كَمَا أَن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة رُبمَا تكون مُشْتَركَة بَين الْمعَانِي المتعددة، وَلَكِن إِذا وضعت فِي كلامٍ منع موقعها وقرائنها من كَثْرَة الِاحْتِمَالَات، وَتعين مِنْهَا مَا وَافق معنى الْجُمْلَة والتأم بِهِ. وَمَعَ ذَلِك؛ فَلَيْسَ كل نظامٍ جَدِيرًا بِالْأَخْذِ، بل مَا هُوَ أحسن تَأْوِيلا، فَرُبمَا يلتئم الْكَلَام ويتسق النظام بِتَأْوِيل رَكِيك سَاقِط؛ فَهَذَا مِمَّا يفتح بَابا لدُخُول الأباطيل والهوى، وَيُخَالف النظام الصَّحِيح العالي، الَّذِي يظْهر بِهِ رفيع مَكَان التنْزيل، كَمَا وصف الله بِهِ كِتَابه فِي مَوَاضِع لَا تُحصى كَقَوْلِه تَعَالَى …)) (1)
(1) هُنَا انْتهى، مَعَ الأسف الْبَالِغ، مَا بالمطبوعة (ص22: 26) ؛ إِذْ كُتب بعد هَذِه النقاط: ((بَيَاض بِالْأَصْلِ)) . وَذَلِكَ أَن هَذَا الْكتاب إِنَّمَا جمع من أوراق الشَّيْخ الفراهي بعد وَفَاته، وَقَامَ على طباعته تِلْمِيذه المخلص بدرالدين الإصلاحي (مدير الدائرة الحميدية) ، وَكَانَ أَمينا على الأَصْل، فَلم يُغير فِيهِ شَيْئا، وَلم يكمل مَا بِهِ من نقص - كَمَا ذكر مقدمته -.. وأحسب أَن الشَّيْخ كَانَ سَيذكرُ فِي هَذَا الْموضع قَوْله تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود / 1) ، أَو مَا شابهها من الْآيَات الْكَرِيمَة، الَّتِي وصفت دقة إحكام الْقُرْآن الْمجِيد، ومتانة نظمه، وعلوَّ أسلوبه.

الصفحة 40