كتاب الإبانة الكبرى لابن بطة (اسم الجزء: 3)

فِي كتاب الله {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها}
ثمَّ قَالَ النُّصُوص والْآثَار فِي تقدم علم الله وكتابته وقضائه وَتَقْدِيره الْأَشْيَاء قبل خلقهَا وأنواعها كَثِيرَة جدا وَقد بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ذَلِك لَا يُنَافِي وجود الْأَعْمَال الَّتِي بهَا تكون السَّعَادَة والشقاوة وَأَن من كَانَ من أهل السَّعَادَة فَإِنَّهُ ييسر لعمل أهل السَّعَادَة وَمن كَانَ من أهل الشقاوة فَإِنَّهُ ييسر لعمل أهل الشقاوة وَقد نهى أَن يتكل الْإِنْسَان على الْقدر السَّابِق ويدع الْعَمَل وَلِهَذَا كَانَ من اتكل على الْقدر السَّابِق وَترك مَا أَمر بِهِ من الْأَعْمَال هُوَ من الأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَانَ تَركهم لما يجب عَلَيْهِم من الْعَمَل من جملَة الْمَقْدُور الَّذِي يسروا بِهِ لعمل أهل الشقاوة فَإِن أهل السَّعَادَة هم الَّذين يَفْعَلُونَ الْمَأْمُور ويتركون الْمَحْظُور فَمن ترك الْعَمَل الْوَاجِب الَّذِي أَمر بِهِ وَفعل الْمَحْظُور متكلا على الْقدر كَانَ من جملَة أهل الشقاوة الميسرين لعمل أهل الشقاوة وَهَذَا الْجَواب الَّذِي أجَاب بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَايَة السداد والاستقامة وَهُوَ نَظِير مَا أجَاب بِهِ فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَنه قيل يَا رَسُول الله أَرَأَيْت أدوية نتداوى بهَا ورقي نسترقي بهَا وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا فَقَالَ هِيَ من قدر الله وَذَلِكَ لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ يعلم الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَكْتُبهَا فَإِذا كَانَ قد علم أَنَّهَا تكون بِأَسْبَاب من عمل وَغَيره وَقضى أَنَّهَا تكون كَذَلِك وَقدر ذَلِك لم يجز أَن يظنّ أَن تِلْكَ الْأُمُور تكون بِدُونِ الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الله أسبابا وَهَذَا عَام فِي جَمِيع الْحَوَادِث مِثَال ذَلِك إِذا علم الله وَكتب أَنه سيولد لهذين ولد وَجعل الله سُبْحَانَهُ ذَلِك مُعَلّقا باجتماع الْأَبَوَيْنِ على النِّكَاح وإنزال المَاء المهين الَّذِي ينْعَقد مِنْهُ الْوَلَد فَلَا يجوز أَن يكون وجود الْوَلَد بِدُونِ السَّبَب الَّذِي علق بِهِ وجود الْوَلَد

الصفحة 177