كتاب الإبانة الكبرى لابن بطة (اسم الجزء: 3)

فخلاصة الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة أَن الإضلال والإغواء والختم وَالصرْف عَن الْهدى والطبع والران والحيلولة بَين الْمَرْء وَالْإِيمَان وتقليب الأفئدة كل ذَلِك لَا يَأْتِي من الله ابْتِدَاء وَإِنَّمَا يَأْتِي على سَبِيل الْعقُوبَة وَالْجَزَاء بعد أَن صدرت الذُّنُوب من العَبْد مقدما فَلِذَا لم يكن ذَلِك ظلما من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ بل هُوَ عدل مِنْهُ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَن الظُّلم عِنْد أهل السّنة هُوَ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه أَو أَن يُعَاقب الْإِنْسَان على عمل غَيره وَأما عِقَابه على فعله الِاخْتِيَارِيّ فَهُوَ لَيْسَ ظلما بل هُوَ عين الْعدْل فَلَا يُقَال حِينَئِذٍ كَيفَ تتمّ عَدَالَة الرب مَعَ الْخَتْم والطبع والإضلال إِذْ جَاءَ ذَلِك جَزَاء لَا ابْتِدَاء فبذلك يظْهر أَن الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَات السالفة الذّكر وأمثالها فِي الْقُرْآن الْكَرِيم على مَذْهَب الْجَبْر والختم والإضلال ابْتِدَاء دون أَسبَاب وَلَا عِقَاب يُوجب لَهُم ذَلِك فَهُوَ اسْتِدْلَال بَاطِل يدل على بُطْلَانه الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع سلف الْأمة
وَبعد هَذَا الْبَيَان لَا يسْتَشْكل علينا مَا حَكَاهُ لنا الْقُرْآن الْكَرِيم من أَن الله تَعَالَى هدى قوما وأضل قوما آخَرين من الْأُمَم الْمَاضِيَة مثل قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَصَالح وَشُعَيْب وَقوم عِيسَى ومُوسَى وَذَلِكَ لأَنهم كغيرهم من الْكَفَرَة عوقبوا بالإضلال والإغواء والختم والطبع بعد تماديهم فِي الضلال وعنادهم لأوامر الله وَرُسُله فأضلهم الله عُقُوبَة لَهُم وَجَزَاء على ضلالهم السَّابِق وعنادهم المستمر كَمَا حكى ذَلِك كل نَبِي عَن قومه قَالَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ وأصروا واستكبروا استكبارا}

الصفحة 197