كتاب نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (اسم الجزء: 3)

كما ذكرنا, ولكن ثبت في "الصحيحين" (¬1): عن أبي هريرة أنه قال: "يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا ... " إلى آخره، وإذا كان له سكوت لم يكن لأنس أن ينفي قراءة البسملة في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر والاستفتاح والسماع مرادًا به الجهر بذلك، يدل عليه قوله: "فكانوا لا يجهرون"، وقوله: "فلم أسمع أحدًا منهم يجهر" لا تَعَرُّض فيه للقراءة سرًّا ولا على نفيها؛ إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها, ولذلك قال لمن سأله: "إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه" (¬2)، فإن العلم بالقراءة السريّة إنما يحصل بأخبار أو سماع عن قرب، وليس في الحديث شيء منها، ورواية من روى: "فكانوا يسرون" كأنها مرويّة بالمعنى من لفظ: "لا يجهرون".
وأيضًا فحمل الافتتاح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام الصحيحة؛ لأن هذا من العلم الظاهر الذي يعرفه العام والخاص، كما يعلمون أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس ... إلى غير ذلك، فليس في نقل مثل هذه فائدة فكيف يجوز أن يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه، وإنما مَثَلُ هذا مَثَلُ من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاة الظهر والعصر.
وأيضًا فلو أريد الافتتاح بالسورة لقيل: كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن، أو بفاتحة الكتاب، أو بسورة الحمد، هذا هو المعروف في تسميتها عندهم. وأما تسميتها بالحمد لله رب العالمين، فلم ينقل عن النبي - عليه السلام - ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعرف متأخر، يقولون: فلان قرأ الحمد. وأين هذا من قوله: "فكانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح.
¬__________
(¬1) البخاري (1/ 259 رقم 711)، ومسلم (1/ 419 رقم 598).
(¬2) أخرجه أحمد (3/ 166 رقم 12723)، والدارقطني (1/ 216 رقم 10).

الصفحة 603