كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 3)

صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا مَرَّ بِنُفُوذِ التَّصَرُّفِ الشَّامِلِ لِلتَّبَرُّعِ فَعَلِمْنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّبَرُّعِ لَا تُنَافِي صِحَّتَهُ فَاحْفَظْ ذَلِكَ وَاشْدُدْ بِهِ يَدَيْك تَسْلَمْ مِنْ اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ اللَّذَيْنِ لَا يَلِيقَانِ بِفَاضِلٍ فَضْلًا عَنْ كَامِلٍ حَمَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَنْ ذَلِكَ وَوَفَّقَنَا لِسُلُوكِ أَقْوَمِ الْمَسَالِكِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.

الْعِبَارَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُ أَفْقَهِ تَلَامِذَةِ الْفَتَى وَأَجَلِّ مَشَايِخِ شَيْخِ الْمُفْتِي اللَّذَيْنِ احْتَجَّ بِكَلَامِهِمَا فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ الشِّهَابَ الْمُزَجَّدَ صَاحِبَ الْعُبَابِ فِي فَتَاوِيهِ بِصِحَّةِ نَذْرِ الْمَدِينِ وَعِبَارَةُ السُّؤَالِ هَلْ يَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ الْمَدْيُونِ لِمَا يَحْتَاجُهُ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ وَذَلِكَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَعِبَارَةُ الْجَوَابِ نَعَمْ يَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ الْمَدْيُونِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ إذَا كَانَ يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَإِلَّا فَلَا إذْ التَّصْدِيقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَكْرُوهٌ وَالنَّذْرُ لَا يَصِحُّ بِالْمَكْرُوهِ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ لِغَيْرِهِ بَلْ وَالْمُحَرَّمُ لِغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَحِينَئِذٍ فَهَذَا نَصٌّ فِي صِحَّةِ سَائِرِ تَبَرُّعَاتِ الْمَدِينِ إذْ النَّذْرُ مِنْ أَفْرَادِ التَّبَرُّعِ.
وَعَجِيبٌ اعْتِمَادُ الْمُفْتِي لِفَتْوَى شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الطَّنْبَدَاوِيِّ وَتَبَاهِيهِ بِهَا إعْرَاضًا عَنْ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ اعْرِفْ الرِّجَالَ بِالْحَقِّ وَلَا تَعْرِفْ الْحَقَّ بِالرِّجَالِ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ فَتْوَى شَيْخِ الطَّنْبَدَاوِيِّ مَعَ أَنَّهُ أَجَلُّ مِنْهُ فِقْهًا وَتَحْقِيقًا بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا فَالْفَارِق بَيْن النَّاسِ إنَّمَا هُوَ آثَارُهُمْ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ نَذْرِ الْمَدِينِ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاءً وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى صَرْفِ مَالِهِ فِي الدَّيْنِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ لِحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِدَيْنٍ لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاءً. اهـ.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ بِحَالَتَيْهِ دَاخِلًا فِي كَلَامِهِمْ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ إنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا دَخَلَتْ تَحْتَ إطْلَاقِ الْأَصْحَابِ كَانَتْ مَنْقُولَةً لَهُمْ تَعْلَم أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ الْمُزَجَّدُ هُوَ الْمَنْقُولُ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فِيهِ لَمْ يُصِبْ

الْعِبَارَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْل شَيْخِ شَيْخِهِ الْمَذْكُورِ فِي فَتَاوِيهِ أَيْضًا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَدَاقٌ حَالٌّ لِزَوْجَتِهِ فَمَلَّكَ مَالَهُ لَآخَرَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبِلَ وَقَبَضَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ فَهَلْ يَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَوْ لَا نَعَمْ يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ وَإِقْبَاضُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. اهـ. فَتَأَمَّلْ هَذَا مِنْ هَذَا الْفَقِيهِ الْغَيْرِ الْخَفِي عَلَيْهِ مَا وَقَعَ فِيهِ شَيْخُهُ الْفَتَى مِنْ وَرْطَةِ عَدَمِ صِحَّةِ نَذْرِ الْمَدِينِ وَسَائِرِ تَبَرُّعَاتِهِ تَجِدْهُ أَعْرَضَ عَمَّا شَذَّ بِهِ شَيْخُهُ الْمَذْكُورُ وَأُفْتَى بِالْمَذْهَبِ وَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى إفْتَاءِ شَيْخِهِ بِذِكْرٍ وَلَا رَدٍّ اكْتِفَاءً بِأَنَّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِالْفِقْهِ يَعْلَمُ شُذُوذَهُ فِيمَا أَفْتَى بِهِ وَأَنَّ مَنْ تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ قَلَّدَهُ مِنْ غَيْرِ إمْعَانٍ وَتَفْتِيشٍ لِكُتُبِ الْمَذْهَبِ بَلْ مَرَّ أَنَّ مَا يُعْلَمُ بِهِ الرَّدُّ الْوَاضِحُ عَلَى الْفَتَى فِي الْمُخْتَصَرَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمُطَوَّلَاتِ فَتَيَقَّظْ لِذَلِكَ كُلِّهِ لِتَسْلَمَ وَتَغْنَمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَإِذَا اتَّضَحَ كُلَّ الِاتِّضَاحِ مَنْقُولُ الْمَذْهَبِ حَتَّى صَارَ كَنَارٍ عَلَى عِلْمٍ فَلْنَرْجِعْ إلَى بَعْضِ مُؤَاخَذَاتٍ عَلَى عِبَارَةِ الْمُفْتِي السَّابِقَةِ الَّتِي سُقْت حَاصِلَهَا فِي قَوْلِي خَامِسُهَا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ مَا فِي شَرْح الْمُهَذَّبِ مَنْظُورٌ فِيهِ فَقَوْلُهُ مَنْظُورٌ فِيهِ هُوَ الْمَنْظُورُ فِيهِ إذْ لَا وَجْهَ لِلنَّظَرِ فِيهِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا مَرَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَعَنْ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي الْعِتْقِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا فِي يَدِهِ زَادَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّشَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ نَفَذَ تَبَرُّعُهُ بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ فَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ شَرْحِ الْمُهَذَّب عَنْ الشَّاشِيِّ مِنْ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَطُولِبَ بِهَا فَوَهَبَ مَالَهُ وَسَلَّمَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ. اهـ. وَعَلَيْهِ فَفَارَقَ مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ بِأَنَّ الْحَقَّ ثَمَّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَتَّى بِالْبَيْعِ بِغِبْطَةٍ وَهُنَا الدَّيْنُ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ دُونَ أَعْيَانِ مَالِ الْمَدِينِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إلَّا بِالْحَجْرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَدْ مَرَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَوْ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِمْ وَرَفْعِهِمْ لِلْقَاضِي حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الْإِسْنَوِيِّ الشَّيْخَيْنِ فِيمَا ذَكَرَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ بِكَلَامِ الشَّاشِيِّ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا جَامِعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِوَجْهٍ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ كَلَامَ الشَّاشِيِّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فَالنَّظَرُ فِيهِ بَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ مَا ذَكَرَهُ مَشْهُورًا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ لَمْ يَحْتَجْ النَّوَوِيُّ إلَى التَّعَرُّضِ لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ بَلْ سَكَتَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ وَعَلَى قِيَاسِهِ مَسْأَلَةُ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا تَقَرَّرَ
وَمَعْنَى قَوْلِ الْإِسْنَوِيِّ إنَّ

الصفحة 16