كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 3)

تَبَرُّعِ الْمَدِينِ يُقَالُ عَلَيْهِ لَا نَظَرَ إلَى النَّاشِرِيِّ وَلَا إلَى غَيْرِهِ مَعَ مَا مَرَّ بَيَانُهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ وَالشَّيْخَيْنِ وَأَكَابِرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَوْلُهُ وَلَيْتَ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا التَّمَنِّي مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الِالْتِبَاسِ السَّابِقِ بَيَانُهُ فَأَمَّا عِنْدَ تَأَمُّلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي مَحَلِّهَا كَمَا هُوَ جَلِيٌّ.
وَقَوْلُهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ صَحَّحَ هِبَةَ الْمَدِينِ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَحَّحَهُ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَيْضًا لِمَا مَرَّ مَبْسُوطًا أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ الشَّاشِيِّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَأَنَّ مَوْضُوعَ شَرْحِهِ لِلْمُهَذَّبِ الَّذِي هُوَ مُتَتَبِّعٌ فِيهِ لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَلَى الْحُكْمِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِارْتِضَائِهِ لَهُ وَأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الضَّعِيفَ إنَّمَا يَقِيسُ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْأَصَحُّ فَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ صَحَّحَهُ أَوْ جَزَمَ بِهِ السَّابِقُ عَنْ الْإِسْنَوِيِّ وَزَعَمَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ كَلَامَهُ فِيهِ تَزْيِيفٌ لِكَلَامِ الشَّاشِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَقَوْلُهُ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُفَرِّقِينَ فِي التَّيَمُّم أَقَرُّوا ابْنَ الرِّفْعَةِ عَلَى تَخْرِيجِهِ يُقَالُ عَلَيْهِ لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّخْرِيجَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ وَبِفَرْضِ اسْتِلْزَامِهِ لَهُ أَوْ النَّظَرِ لِلْغَالِبِ فِيهِ يُجَابُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ لِلْعِلْمِ بِضَعْفِهِ مِمَّا قَرَّرُوهُ وَفَرَّقُوا بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ لِلْمُؤَلِّفِينَ فَلَا بِدَعَ فِيهِ وَقَوْلُهُ.
وَإِذَا بَرِئَ شَرْحُ الْمُهَذَّبِ عَمَّا نَسَبَهُ الْإِسْنَوِيُّ إلَيْهِ وَالْحَقُّ بَرَاءَتُهُ بِعَيْنِ التَّخْرِيجِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَوْ الْقَطْعِ الَّذِي بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَيْضًا لِمَا مَرَّ مُوَضَّحًا أَنَّ التَّخْرِيجَ لَيْسَ عَلَى هِبَةِ الْمَدِينِ الَّتِي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّب عَنْ الشَّاشِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى هِبَة الْمَاءِ وَهَذَا لَا ارْتِبَاط لَهُ بِمَسْأَلَةِ الشَّاشِيِّ بَلْ التَّخْرِيجُ عَلَى حَالِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِاعْتِمَادِ مَا قَالَهُ الشَّاشِيُّ أَمْ لَا إنْ أُرِيدَ التَّخْرِيجُ مِنْ حَيْثُ الْخِلَافُ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ التَّخْرِيجُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَقَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ بُطْلَانُ هِبَةِ الْمَدِين وَالشَّاشِيُّ جَازِمٌ بِصِحَّتِهَا فَيَقَعُ حِينَئِذٍ التَّعَارُضُ بَيْنهمَا فِي ذَلِكَ وَمَرَّ أَنَّ كَلَامَ الشَّاشِيِّ هُوَ مَنْقُولُ الْمَذْهَبِ الَّذِي لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَأَنَّ كَلَامَ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ظَاهِرٌ فِي اعْتِمَادِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ أَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ تَخْرِيجُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَلَا قَطْعُ الْأَذْرَعِيِّ وَمَنْ نَظَرَ لِمَا قَدَّمْتُهُ مُتَكَرِّرًا فِي رَدِّ ذَلِكَ التَّخْرِيجِ وَذَلِكَ الْقَطْع اتَّضَحَ لَهُ أَنَّهُ لَا تَعْوِيلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَذْهَبِ وَمَنْقُولِهِ وَقَوْلُهُ بَلْ أَقُولُ صَدْعًا بِالْحَقِّ يَجُوزُ نِسْبَةُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إلَى بُطْلَانِ هِبَةِ الْمَدْيُونِ حَيْثُ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ التَّصْدِيقَ أَخْذًا مِنْ تَعْلِيلِ التَّيَمُّم وَمِنْ تَحْرِيمِ التَّصَدُّقِ فِي بَابِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَمِنْ نِسْبَةِ الْوَجْهَيْنِ بِالْهِبَةِ لِلْوَالِي عَلَى سَبِيل الرِّشْوَةِ وَتَعْلِيلُ أَحَدِهِمَا بِالْمَعْصِيَةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا النَّوَوِيُّ. اهـ.
يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا الصَّدْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى صَدْعٍ فِي فَهْمِ مَدْرَكِ هِبَةِ الْمَاءِ وَمُدْرَكِ صَدَقَةِ الْمَدِين وَقَدْ مَرَّ مُتَكَرِّرًا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ كَوْنُ الْحُرْمَةِ ذَاتِيَّةً فَاقْتَضَتْ الْبُطْلَانَ حَتَّى فِي الْبَيْعِ بِأَضْعَافِ الثَّمَنِ وَالثَّانِي هُوَ كَوْنُهَا خَارِجَةً عَنْ الذَّاتِ وَلَازِمِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْمُتَصَدَّقِ بِهِ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الدَّائِنِ بِهِ بَلْ فِي الدَّائِنِ الْخَارِجِ عَنْ ذَلِكَ بِإِضْرَارِهِ بِتَفْوِيتِ دَيْنِهِ وَالْخَارِجَةُ كَذَلِكَ لَا تَقْتَضِي إبْطَالًا وَمَسْأَلَةُ الرِّشْوَةِ مِنْ قَبِيلِ الْأُولَى فَحُرْمَتُهَا ذَاتِيَّةٌ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِهَا وَإِخْرَاجُهَا مِنْ يَدِهِ إنَّمَا هُوَ كَرْهٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْصِ الْمُعْطِي لِإِرْشَائِهِ عَلَى وُصُولِ حَقِّهِ فَاعْتِمَادُ النَّوَوِيِّ لِكَوْنِ الْعِلَّةِ الْمَعْصِيَةَ مَحْمُولٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُوَ وَالْأَصْحَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الذَّاتِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَبِتَأَمُّلِ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ مُطْلَقِ الْحُرْمَةِ وَإِبْطَال التَّصَرُّفِ الْمُحَرَّمِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُعْتَرِضُ وَبَنَى عَلَيْهِ صَدْعَهُ بِالْحَقِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ لِشَرْحِ الْمُهَذَّبِ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ هِبَةِ الْمَدِينِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا مُحَرَّمَةً لِمَا مَرَّ مِنْ الطَّرِيقِ الْمُسَوِّغَةِ لِنِسْبَةِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَقَوْلُهُ إنَّ التَّحْقِيقَ فِي قَوْلِهِ عَصَى وَلَمْ يَصِحَّا لَازِمٌ بَيْنَ الْعِصْيَانِ وَالْإِبْطَالِ يُقَالُ عَلَيْهِ أَيُّ وَجْهٍ يَفْهَم بِهِ مِنْ عِبَارَتِهِ هَذَا التَّلَازُمُ لَا سِيَّمَا مَعَ الْعِطْفِ بِالْوَاوِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ بِحُكْمِهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ لَوْ عَطَفَ بِالْفَاءِ فَقَالَ عَصَى فَلَمْ يَصِحَّا فَهَذَا يَقْتَضِي نَوْعَ ارْتِبَاطٍ أَوْ تَلَازُمٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ بِهَذِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ

الصفحة 21