كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 3)

عَصَى إنَّمَا هُوَ فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَهِبَتِهِ وَالْمَعْصِيَةُ هُنَا ذَاتِيَّةٌ كَمَا تَقَرَّرَ فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ فَلَمْ يَصِحَّا لِمَا بَيْنَ الْحُرْمَةِ الذَّاتِيَّةِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ التَّلَازُمِ وَقَوْلُهُ فَالْحَاصِلُ الَّذِي تَلَخَّصَ لَنَا مِمَّا قَرَّرْنَاهُ وَحَرَّرْنَاهُ أَنَّهُ حَيْثُ حَرَّمَ تَبَرُّعَ الْمَدِينِ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ وَنُلَازِمُ مَا بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلَانِ هُنَا وَإِنْ لَمْ نَلْتَزِمْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِفَارِقٍ. اهـ.
يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا إنَّمَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ مِنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُؤَسِّسُ لَهُ قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ غَيْرِهِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَحْكَامُهُ الَّتِي يَسْتَنْبِطُهَا وَأَنَّى لِأَحَدٍ مِنْ مُنْذُ نَحْوِ سَبْعمِائَةِ سَنَةٍ كَمَا أَفَادَهُ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنْ يَتَحَلَّى بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذَا الْحَاصِلِ خَالَفَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقَ أَنَّهُ يَصِحُّ تَبَرُّعُ الْمَدِينِ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ وَرَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ مَعَ حُرْمَةِ هَذَا التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ فَوْرًا بِالطَّلَبِ وَإِذَا تَقَرَّرَتْ مُخَالَفَةُ هَذَا الْحَاصِلِ لِنَصِّ إمَامِ الْمَذْهَب عُلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ مُبْتَدَعٌ لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ رَدًّا عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ لِفَارِقٍ يُقَالُ عَلَيْهِ كَانَ يَنْبَغِي لَك إبْدَاءُ هَذَا الْفَارِقِ لِيَصِحَّ أَوْ يَبْطُلَ مَا اخْتَرَعْته مِمَّا لَمْ تُسْبَقْ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحُرْمَةَ وَلَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ تَقْتَضِي الْإِبْطَال وَلَوْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ نَعَمْ هَذَا الْحَاصِلُ يُنَاسِبُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ لَكِنَّهُ يُعَمِّمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حُرْمَةٍ خَارِجِيَّةٍ فَالتَّخْصِيصُ بِهَذَا الْمَحَلِّ فِي التَّلَازُمِ دُونَ غَيْرِهِ لَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَ أَحْمَدَ وَلَا قَوَاعِدَنَا بَلْ وَلَا قَوَاعِدَ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَحْرِيرِ مَذَاهِبِهِمْ فِي الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ وَإِيَّاكَ وَالتَّهْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَالْجُمُودَ عَلَيْهِ فَتَقَعَ فِي تَخْطِئَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ الْمُعْتَمَدِينَ يُقَالُ عَلَيْهِ قَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّا لَمْ نَعْتَمِدْ فِي التَّهْوِيلِ إلَّا كَلَامَ إمَامِ الْمَذْهَبِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَتَخْطِئَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ لِأَجْلِ هَذَا مُتَعَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ بِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفُوهُ بِوَجْهٍ كَمَا هُوَ الظَّنُّ بِالْمُقَلِّدِينَ وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا غَيْرُ فَجَرُّوا عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ الْمُدْرَك وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ ظُهُورَ مُدْرِكِهِمْ فِيهَا وَأَنَّ صِحَّةَ تَبَرُّعِ الْمَدِينِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى لَكِنَّ الْمَذَاهِبَ نَقْلٌ يَجِبُ أَنْ يُتَطَوَّقَ بِهِ أَعْنَاقُ الْمُقَلِّدِينَ حَتَّى لَا يَخْرُجُوا عَنْهُ وَإِنْ اتَّضَحَتْ مَدَارِكُ الْمُخَالِفِينَ وَقَوْلُهُ إنَّ السَّمْهُودِيَّ حَاوَلَ تَعَدِّي الصِّحَّةِ إلَى النَّذْرِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِمَا مَرَّ رَدُّهُ مَبْسُوطًا يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا غَفْلَةٌ عَنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي الزَّكَاةِ.
فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِصِحَّةِ نَذْرِ الْمَدِينِ وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُسْتَغْرِقًا كَمَا مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ وَمَنْ تَبِعَهُ إنَّ نَذْرَهُ بَاطِلٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَلِمَا ظَهَرَ لِأَعْظَمِ تَلَامِذَةِ الْفَتَى وَهُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمُزَجَّدُ أَنَّ الْمَنْقُولَ صِحَّتُهُ جَزَمَ بِهَا كَمَا مَرَّ وَلَمْ يُبَالِ بِمُخَالَفَةِ شَيْخِهِ وَلَا غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ عَنْ إفْتَاءٍ لِحَمْزَةَ النَّاشِرِيِّ فِيهِ اعْتِمَادُ الْبُطْلَانِ وَنَقْلُهُ عَنْ جَمْعٍ مُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ إفْتَاءٌ جَيِّدٌ وَفِيهِ إيمَاءٌ أَوْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْقُولُ وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ يُقَالُ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ وَلَا إيمَاءٌ بِذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ الْخَيَّاطِ الَّذِي نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ إنَّمَا قَاسَ عَلَى مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمَاءِ وَهِبَتِهِ.
وَقَدْ عَلِمْت بُطْلَانَ الْقِيَاسِ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَيُّ مَنْقُولٍ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَوْ صَرَّحَ بِهِ نَعَمْ قَوْلُهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ مُحْتَمِلٌ لِلْإِيمَاءِ إلَيَّ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى يُبْطِلُهَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ مَنْقُولَ الْمَذْهَبِ الصِّحَّةُ وَبِذَلِكَ بَانَ انْدِفَاعُ قَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ وَأَيُّ حَقٍّ يَتَعَقَّلهُ مُقَلِّدٌ مَعَ مُخَالَفَةِ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا أُولَئِكَ الْجَمْعَ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اغْتَرَّ بِكَلَامِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْيَمَنِيِّينَ كَالْعَلَّامَةِ التَّقِيِّ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَتَى فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّا لَفْظه رَجُل لَهُ وَرَثَةٌ وَلَهُ مَال وَعَلَيْهِ دُيُونٌ كَمَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَرَادَ إضْرَارَ الْغُرَمَاءِ فَبَاعَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ أَوْ أَقَرَّ لَهُمْ أَوْ نَذَرَ عَلَيْهِمْ أَوْ الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ تِلْكَ الْأَمْوَالَ إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ فَحَصَلَ مِنْهَا تَفْوِيتُ تَرِكَتِهِ كُلِّهَا ثُمَّ مَاتَ هَلْ تَصِحُّ هَذِهِ التَّبَرُّعَاتِ أَوْ لَا؟
فَأَجَابَ بِمَا لَفْظُهُ أَمَّا النَّذْرُ فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْقُرْبَة وَأَمَّا الِالْتِزَامُ بِلَفْظِهِ فَلَا يَصِحُّ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَصِحُّ بَاطِنًا وَمَنْ عَلِمَ مُرَادَهُ مِمَّنْ سَمِعَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ هَذَا وَأَمَّا الْبَيْعُ بِهَذَا الْقَصْدِ فَحَرَامٌ بِلَا شَكٍّ وَأَمَّا صِحَّتُهُ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي وَيَتَّجِهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا الْمُضَارَّةُ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ
مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ
وَهِيَ سَدُّ بَابِ اسْتِيفَاءِ الدُّيُونِ وَالْأَحْكَامِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا فَيَتَعَطَّلُ عَلَى

الصفحة 22