كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 3)

وَنِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا نَقَلُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ إلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ بِمُرَاجَعَةِ الرَّاسِخِينَ فِي قَوَاعِدِهِمْ فَلَعَلَّ لِإِمَامِهِمْ رِوَايَتَيْنِ. اهـ.
وَهَذَا مِنْ سُوءِ فَهْمِهِ وَاخْتِلَاطِ الْمَأْخَذِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي مَقَامَيْنِ نَقْلِ الْمَذَاهِبِ وَمَقَامِ الْعَمَلِ أَوْ الْإِفْتَاءِ بِهَا وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الثَّانِي وَاَلَّذِي وَقَعَ إنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ لَكِنْ لِمَزِيدِ اخْتِلَاطِ عَقْلِهِ لَمْ يَعْرِفْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ بَلْ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ لَا يَجُوز أَخْذُ أَحْكَامِهِمْ وَنِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ إلَخْ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ تَهَوُّرِهِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ وَتَقَوُّلِهِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا وَرَاءَهُ فَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ فِي كُتُبِهِمْ كَالسُّبْكِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَقَبْلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَحْكُونَ الْخِلَافَ الْعَالِي بِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي نَقْلِهِمْ نَقْلَهُ وَحِكَايَتَهُ عَلَى كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ الْمُدَوَّنَةَ فِي ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الثَّلَاثَةِ النُّصُوص بِالْجَوَازِ وَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْجَائِزِ بِالنَّافِذِ الْمُحَرَّمِ إذْ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْمُحَرَّمِ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْجَائِزِ فَهُوَ تَفْسِيرٌ بِغَيْرِ مُطَابِقٍ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ فِي الْأَوَّلِ بِالْجَوَازِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا قَالَ جَائِزٌ كُلُّهُ عَلَيْهِ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا عُدِّيَ بِغَيْرِ مَا يَتَعَدَّى بِهِ ضُمِّنَ فِعْلًا آخَرَ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْحَرْفَ الْمُعَدَّى بِهِ أَوْ أَوَّلَ ذَلِكَ الْحَرْفَ بِحَرْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَهَذَا مُتَعَذِّرٌ هُنَا فَتَعَيَّنْ الْأَوَّلُ وَحِينَئِذٍ فَتَعْدِيَةُ جَائِزٍ بِعَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا بَقَاءُ جَائِز عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْمُبَاحُ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِنَافِذِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَعَدَّى بِعَلَى فَبَطَلَ زَعْمُهُ بَقَاء الْجَوَازِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَكِنَّهُ مَعْذُورٌ
فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُتَعَدِّي وَالتَّضْمِينِ وَيُؤْخَذُ مِنْ بَلَاغَةِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَفْعنَا بِهِ الْبَالِغِ فِيهَا الْمَبْلَغَ الَّذِي لَا يُشِقُّ غُبَارُهُ وَلَا يُخْشَى عِثَارُهُ أَنَّ مُغَايَرَتَهُ بَيْنَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فِي النَّصِّ الْأَوَّلِ بِتَعْدِيَتِهِ بِعَلَى وَالْفِعْلَيْنِ فِي النَّصَّيْنِ الْآخَرَيْنِ بِتَعْدِيَتِهِمَا بِلَهُ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ حَيْثُ عَبَّرَ بِالنُّفُوذِ تَارَةً وَبِالْجَوَازِ أُخْرَى إلَى أَنَّهُ قَبْلَ الْحَجْرِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا جَازَ أَوْ حَرُمَ وَهِيَ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ لَا يَنْقَادُ لِفَهْمِهَا ذِهْنُ مِثْلِ هَذَا الْجَاهِلِ بِفَنِّ الْبَلَاغَةِ عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَهُ أَنَّ الْجَوَازَ عُدِّيَ بِاللَّامِ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا كَانَ الْمَعْنَى النُّفُوذَ أَيْضًا
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْجَوَازِ حَقِيقَتُهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ فَرْضِ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُفْلِسَ الَّذِي لَا يَرْجُو وَفَاءً وَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ فَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَأَمَّا إذَا حَمَلْنَا الْجَوَازَ عَلَى النُّفُوذ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ مَنْ جَازَ تَصَرُّفُهُ وَمَنْ حَرُمَ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّشَهِّي وَالْهَذَيَانِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ قَدَّمَ تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ اعْتِرَاضَ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّلَاثَةِ بِنَصِّ الْجِزْيَةِ وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ مُطْلَقُ النُّفُوذِ إذْ هَذَا هُوَ الَّذِي يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ النُّصُوصِ كَمَا ذَكَرَهُ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَتُهُ فَلَا يَتَأَتَّى اعْتِرَاضُ تِلْكَ النُّصُوصِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَسْتَلْزِمُ أَنَّ لَهُ جِهَةً ظَاهِرَةً فَلَا يَكُونُ مُفْلِسًا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مُفْلِسًا كَانَ أَوْ غَيْر مُفْلِسِ فَاتَّضَحَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ وَقَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْجَائِز بِالنَّافِذِ الْمُحَرَّمِ إلَخْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِقَاعِدَةِ الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ وَبَيَانُهُ يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ النُّفُوذَ وَلَا عَكْسَ فَالنُّفُوذُ وَلَا عُكِسَ فَالنُّفُوذ أَعَمُّ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ بِخِلَافِ عَكْسِهِ فَإِذَا فَسَّرْنَا بِالنَّافِذِ شَمِلَ الْجَائِزَ وَغَيْرَهُ فَبَطَلَ قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْجَائِزِ بِالنَّافِذِ الْمُحَرَّمِ لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُهُ بِذَلِكَ إلَّا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي عَدَمِ فَهْمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَادَّتَيْ التَّضَادّ وَالْعُمُومِ وَلَوْلَا جَهْلُهُ بِذَلِكَ لِمَا كَانَ يُورِدُ عَلَيْنَا الضِّدَّ مَعَ أَنَّا إنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بِالْأَعَمِّ مُطْلَقًا وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا لَكِنْ مَنْ لَا ذَوْقَ لَهُ يُورِدُ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْيَاءٍ مِنْ الْكَذِبِ وَعَارُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَيْتَهُ فِي كَذِبِهِ اكْتَفَى بِإِيرَادِهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا
وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ عَقِبَ قَوْلِهِ وَتَفْسِيرُ الْجَائِزِ إلَخْ وَقَدْ فَسَّرَ الْأَصْحَابُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِعَدَمِ النُّفُوذِ فَلَازَمُوا بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَعَدَمِ النُّفُوذِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ تَبَرُّعَ مَنْ لَا يَرْجُو الْوَفَاءَ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّ الْأَصْحَابَ فَسَرُّوا عَدَمَ الْجَوَازِ فِي كَلَامِ إمَامهمْ بِعَدَمِ النُّفُوذِ فَهَذَا نَصٌّ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ حَيْثُ حَرُمَ تَصَرُّفُ الْمَدِينِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فَارْفَعْ يَدَك فَقَدْ لَاحَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصْحَابِ انْتَهَى وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ هَذَا كَلَامٌ كَذِبٌ وَأَنَّ الْمُلَازَمَةَ الَّتِي

الصفحة 33