كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 3)

الِاسْتِرْبَاحُ فَيَأْثَمَانِ بِتَرْكِهِ وَيَغْرَمَانِ مَا فَاتَ بِسَبَبِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ جُنْحَةً فِيهِمَا أَوَّلًا وَهَلْ لِلْحَاكِمِ حِينَئِذٍ رَفْعُ يَدِهِمَا وَنَصْبُ مَنْ يَسْتَرِيحُ لِلْيَتِيمِ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْعَيِّنَةِ وَإِذَا بَلَغَ الْمَحْجُور سَفِيهًا فَهَلْ يُعْتَبَرُ مَنْعُهُ لِلْقَاضِي عَمَّا اقْتَضَاهُ نَظَرَهُ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِدَوَامِ سَفَهِهِ (الْجَوَابُ اعْتِمَادُ النَّاظِرِ فِي إعْطَائِهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْمَنَامِ غَيْرُ سَائِغٍ لَهُ فَيَغْرَمُ مَا فَاتَ عَلَى الْوَلَدِ بِسَبَبِ إعْطَائِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ جُنْحَةً فِيهِ.
وَاخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي الِاتِّجَارِ لِلْمَحْجُورِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ مُطْلَقًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وَقَالَ الْأَقَلُّونَ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ إنَّهُ بِقَدْرِ الْمُؤَنِ نَفَقَةً وَزَكَاةً وَغَيْرهمَا وَاجِبً قَالَ الْقَفَّالُ إنْ نَصَّ لَهُ فِي الْإِيصَاءِ إلَيْهِ عَلَى التِّجَارَةِ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ إنْ كَانَ الزَّمَانُ آمِنًا وَالسُّلْطَانُ عَادِلًا وَغَلَبَ الرِّبْحُ حَالًا أَوْ مَآلًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَإِنْ فَاتَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاتِّجَارُ وَحِينَئِذٍ فَامْتِنَاعُ الْوَصِيِّ مِنْ الِاتِّجَارِ مَعَ وُجُودِ شُرُوطِهِ الْمَذْكُورَةِ إنْ كَانَ لِاعْتِقَادِهِ النَّدْبَ لَمْ يَأْثَمْ أَوْ مَعَ اعْتِقَادِهِ الْوُجُوبَ أَثِمَ لَكِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بَلْ يُقِيمُ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّتُنَا فِيمَا إذَا امْتَنَعَ وَصِيَّانِ أَلْزَمَهُمَا الْحَاكِمُ بِالْعَمَلِ بِالْمَصْلَحَةِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَقَالُوا لَا يَنْعَزِلُ الْمُمْتَنِعُ بَلْ يُنِيبُ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ بِأَنَّ السَّفَرَ بِمَالِ الْمَحْجُورِ حَيْثُ حَرَّمْنَاهُ لَا يَنْعَزِلُ بِهِ الْوَلِيُّ.
وَصَرَّحَ الدَّارِمِيُّ بِأَنَّا إذَا أَلْزَمْنَا الْوَلِيّ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ مَالِ الْمَحْجُورِ فَوْرًا كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا فَامْتَنَعَ لَا يَنْعَزِلُ وَلَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ الرِّبْحَ الْفَائِتَ بِسَبَبِ عَدَمِ التِّجَارَةِ فَقَدْ حَكَى أَئِمَّتُنَا وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ تَرَكَ الْوَلِيُّ التَّصَرُّفَ فَنَقَصَ الْمَالُ أَوْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي حِفْظِهِ كَأَنْ تَرَكَ تَلْقِيحَ طَلْعِهِ أَوْ بَيْعَ فِرْصَادِهِ أَوْ عِمَارَةَ دَارِهِ أَوْ إجَارَتَهَا أَوْ عَلَفَ دَوَابِّهِ حَتَّى مَاتَتْ قَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ.
وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ الضَّمَانِ فِي الْجَمِيعِ إلَّا فِي الدَّوَابِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِحُرْمَةِ الرُّوحِ وَيُؤَيِّدُ مَا رَجَّحَهُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ لَوْ أَخَذَ ثِيَابًا مُنْقَطِعًا فَمَاتَ بَرْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي ذَاتِهِ شَيْئًا بَلْ صَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ حَبَسَهُ ظُلْمًا فَمَاتَتْ دَوَابُّهُ جُوعًا لَا يَضْمَنُهَا لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الدَّوَابِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاضِحٌ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُنَا مُخَاطَبٌ بِدَفْعِ الْمُتْلِفَاتِ لِأَنَّهَا تَحْتَ يَدِهِ مَعَ حُرْمَةِ مَا تَمَيَّزَتْ بِهِ مِنْ الرُّوحِ الَّتِي يُحْتَاطُ لَهَا أَكْثَرَ فَهُوَ كَالْوَدِيعِ بَلْ أَوْلَى فَضَمِنَهَا لِتَقْصِيرِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَابِسُ فَإِنَّ تَعَدِّيهِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَحْبُوسِ لَا يَتَجَاوَزُهُ إلَى بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَالِاسْتِرْبَاحُ بِطَرِيقِ بَيْعِ الْعِينَةِ الْخَالِي عَنْ شَرْطٍ مُفْسِدٍ صَحِيحٌ لَكِنْ.
قَالَ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَغَيْرِهَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ بِمُعَامَلَةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ لِأَنَّ رِعَايَةَ الْمَحْجُورِ فِي الْآخِرَةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ مَصْلَحَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ مَصْلَحَةِ الْآخِرَة إطْعَامُهُ الْحَلَالَ الْخَالِصَ عَنْ الشُّبْهَةِ وَبَيْعُ الْعِينَةِ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفِيهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَكُلُّ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ لَيْسَ مِنْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. اهـ.
مُلَخَّصًا قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْإِرْشَادِ عَقِبَهُ وَهُوَ كَلَامٌ نَفِيسٌ وَلَا عِبْرَةَ بِمَنْعِ السَّفِيهِ وَلَا بِإِذْنِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ مُطَاوَعَتُهُ فِي تَرْكِ مَا لَزِمَ الْحَاكِمَ فِعْلُهُ مِنْ النَّظَرِ فِي مَالِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَمَنْعِهِ مِنْ الِاسْتِرْبَاحِ السَّائِغِ أَمَارَةً عَلَى سَفَهِهِ وَإِنْ لَمْ نُثْبِتهُ بِمُجَرَّدِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ رُفِعَ إلَيَّ هَذَا السُّؤَالُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى وَحَاصِلُهَا شَخْصٌ أَسْنَدَ وَصِيَّتَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَمَالَهُ لِإِنْسَانٍ وَجَعَلَ النَّظَرَ لِآخَرَ وَقَالَ لَهُمَا أَثْنَاءَ وَصِيَّتِهِ قَصْدِي أَنْ أَخُصَّ وَلَدِي بِمَا هُوَ فِي مِلْكِي مِنْ نُحَاسٍ وَغَيْرِهِ وَعَيَّنَهُ فَقَالَا لَهُ هَذَا حَرَامٌ إجْمَاعًا ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ قِيلَ لَهُ اجْعَلْ الْوَصِيَّةَ بِلَفْظِ الْإِقْرَارِ لِيَصِحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَأَقْرٍ وَأَثْبَتَ إقْرَارَهُ شَافِعِيٌّ فَلَمَّا مَاتَ الْمُوصِي أُفْهِمَتْ وَالِدَتُهُ أَنَّهُ لَا حَقّ لَهَا فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ لِأَنَّهَا مِلْكُ وَلَدِهِ الْمُقَرِّ لَهُ دُونَهَا حَسَبَ إقْرَارِهِ الصَّحِيحِ فَأَعْذَرَتْ ظَانَّةً صِدْقَ مَا قِيلَ لَهَا ثُمَّ اطَّلَعَتْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ وَصِيَّةٌ فِي بَاطِن الْأَمْرِ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ الْمَذْكُورَ حِيلَةٌ فَادَّعَتْ بِنَصِيبِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَعْيَانِ وَتَمَسَّكَتْ بِمَا قَالَهُ وَلَدُهَا مِنْ التَّخْصِيصِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَاسْتَشْهَدَتْ

الصفحة 44