كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 3)

مُنَافَاتِهِ لِمَا قُلْنَاهُ حَمْلُ قَوْلِهِ سَوَاءٌ أَصَرَّحَ بِالْبَرَاءِ عَلَى مَا إذَا صَرَّحَ بِهِ بِلَفْظِ بَرِئْت لَا بِلَفْظِ أَبْرَأْتُك لِمَا مَرَّ وَكَذَا يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْحِلْيَةِ وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَالٍ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ وَيَرْجِعُ بِمَا دَفَعَ مِنْ الْعِوَضِ سَوَاءٌ أَصَرَّحَ بِإِبْرَائِهِ أَوْ لَمْ يُصَرِّحْ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إذَا صَرَّحَ بِإِبْرَائِهِ بَعْدَ الصُّلْحِ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ قَالَ أَسْقَطْت عَنْك الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ صُلْحٍ فَفِي الْحَاوِي فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَسْقُطُ كَأَبْرَأْتُكَ اهـ.
وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي أَسْقَطْت هُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ صَرَّحَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّلَفُّظِ بَعْدَ الصُّلْحِ بِالْإِبْرَاءِ وَعَدَمِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِلَفْظِ بَرِئْت دُونَ أَبْرَأْتُك فَكَلَامُهُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَكَلَامُهُ ضَعِيفٌ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ مَا نَقَلَهُ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مِنْ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ إذَا كَانَ بِلَفْظِ أَبْرَأْتُك مُطْلَقًا وَمَرَّ مَا يُصَرِّحُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ إطْلَاقُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَقُلْنَا لَا يَفْتَقِر الْإِبْرَاءُ إلَى الْقَبُولِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصُّورَةَ حَيْثُ لَمْ تَجْرِ مُصَالَحَةٌ وَيُحْتَمَلُ التَّعْمِيمُ كَمَا هُوَ الْوَجْهُ الْآخَرُ. اهـ.
وَالتَّعْمِيمُ هُوَ الْأَوْجَهُ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَتِمَّاتٌ وَمُنَاسِبَاتٌ مِنْهَا أَفْتَى النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَبْرَأَهُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ اسْتِيفَاءٍ لَمْ يَصِحَّ وَالدَّيْنُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ بَرَاءَةِ إسْقَاطٍ سَقَطَ وَأَلْحَقَ الزَّرْكَشِيُّ مَا إذَا أَطْلَقَ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَسْقُطُ وَفِيهِ نَظَرٌ وَقِيَاسُ مَا مَرَّ إلْحَاقُهُ بِالْإِسْقَاطِ فَيَسْقُطُ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ صَرِيحٌ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ وَفِي الْأَنْوَارِ لَوْ اشْتَرَى طَعَامًا فِي الذِّمَّةِ وَقَضَى ثَمَنَهُ مِنْ حَرَامٍ فَإِنْ سَلَّمَهُ الْبَائِعُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بِطِيبِ قَلْبِهِ وَأَكَلَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَدَاءِ الثَّمَنِ حَلَّ أَدَّاهُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ لَمْ يُؤَدِّ أَصْلًا وَالثَّمَنُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ الْحَرَامِ وَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ بَرِئَ وَلَكِنْ أَثِمَ وَإِنْ أَبْرَأَهُ بِظَنِّ الْحِلِّ لَمْ يَبْرَأْ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَرَّ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَقَدَّمْت مَا فِيهِ وَمِنْهَا قَالَ فِي الْبَحْرِ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَبْرَأْتُك مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَالَ الْأَصْحَابُ تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ فِي الْحُكْمِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنِّي لَمْ أَعْلَمُ ذَلِكَ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الدَّيْنَ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اعْتَقَدَتْ قَبْضَ مَهْرِهَا فَقَالَتْ أَبْرَأْتُك عَنْ مَهْرِي ثُمَّ بَانَ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ أَوْ قَالَ أَبْرَأْتُك مِمَّا أَسْتَحِقُّهُ عَلَيْك مِنْ الشُّفْعَةِ بَاطِنًا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا أَوْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ مِنْ جَهِلَهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ. اهـ.
مُلَخَّصًا وَمِنْهُ يُؤْخَذُ صِحَّةُ إفْتَاءِ الْأَصْبَحِيِّ فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا فِي ذِمَّة أُمِّهَا فَظَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ الْمَهْرِ فَأَبْرَأَ الْأُمَّ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ عِوَضِ الْخُلْعِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ مِثْلِهِ الَّذِي لِلزَّوْجَةِ بِذِمَّتِهِ بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ بَلْ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ ظَاهِرًا إنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. اهـ.
وَيُوَافِقُهُ إفْتَاءُ أَبِي مَخْرَمَةَ فِيمَنْ ضَمِنَ فَأَبْرَأَ الْمَضْمُون لَهُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ وَلَمْ يُرِدْ سُقُوطَ دَيْنِهِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُ يَبْرَأُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ وَالضَّامِنُ عَنْ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ. اهـ. وَهَذَانِ صَرِيحَانِ فِيمَا قَدَّمْته مِنْ الْإِبْرَاءِ بِقَوْلِهِ أَبْرَأْتُك بَعْدَ الصُّلْحِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ لَمْ يَنْظُرَا لِلْقَرِينَةِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَكَذَا فِي تِلْكَ نَعَمْ نَقَلَ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ الْأَصْبَحِيِّ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالشَّرْطُ فَوْرِيٌّ فَأَبْرَأْته عَلَى التَّرَاخِي جَوَابًا لِكَلَامِهِ عَلَى ظَنِّ حُصُولِ الطَّلَاقِ لَهَا لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ عَلَى قِيَاسِ نَظَائِرِهَا فِي الصُّلْحِ اهـ وَفِيهِ مَيْلٌ إلَى مَا مَرَّ مِنْ عَدَمِهِ صِحَّة الْإِبْرَاءِ بَعْدَ الصُّلْحِ الْفَاسِدِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْأَوْجَهَ خِلَافُهُ فَقِيَاسُهُ أَنَّ الزَّوْجَ هُنَا يَبْرَأُ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ هُنَا وَقَعَ فِي ضِمْنِ مُعَاوَضَةٍ وَهِيَ الْخُلْعُ فَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ وَيَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَسَادُهُ وَأَمَّا فِي الصُّلْحِ فَلَمْ يَقَع فِي ضِمْنِ مُعَاوَضَةٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّعِ بِهِ بَعْدَ الصُّلْحِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الصُّلْحِ فَسَادُهُ.
وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ فِيهِ خِلَافٌ حَاصِلُهُ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِلْمُكَاتَبِ حِينَ أَدَّى النُّجُومَ اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ فَقَدْ عَتَقْتَ فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهَا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ بَنَى قَوْلَهُ ذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ صِحَّةُ الْأَدَاءِ فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَاسْتَحَقَّ

الصفحة 57