كتاب ذم الدنيا لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل
إِنَّمَا هُمْ بِهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ، وَالْحُتُوفُ لَهُمْ مُسْتَشْرِفَةٌ، تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا، وَتَغْشَاهُمْ بِحِمَامِهَا، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ لُمُشَارِعِهِ، وَالْمُعَايَنَةِ لِفَظَائِعِهِ أَمْرٌ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَضَائِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي إِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ مِنْهُ مَذْهَبٌ، وَلاَ عَنْهُ مَهْرَبٌ، أَلاَ فَأَخْبِثْ بِدَارٍ يَقْلِصُ ظِلُّهَا، وَيَفْنَى أَهْلُهَا، إِنَّمَا هُمْ بِهَا سَفْرٌ نَازِلُونَ، وَأَهْلُ ظَعْنٍ شَاخِصُونَ، كَأَنْ قَدِ انْقَلَبَتْ بِهِمُ الْحَالُ، وَتَنَادَوْا بِالِارْتِحَالِ، فَأَصْبَحَتْ مِنْهُمْ قِفَارًا قَدِ انْهَارَتْ دَعَائِمُهَا، وَتَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهَا، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الْقُبُورَ الْمُوحِشَةَ الَّتِي اسْتُوطِنَتْ بِالْخَرَابِ، وَأُسِّسَتْ بِالتُّرَابِ، فَمُحِلُّهَا مُقْتَرِبٌ، وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ بَيْنَ أَهْلٍ مُوحِشِينَ، وَذَوِي مَحَلَّةٍ مُتَشَاسِعِينَ، لاَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْعُمْرَانِ، وَلاَ يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْإِخْوَانِ، وَلاَ يَتَزَاوَرُونَ تَزَاوُرَ الْجِيرَانِ، قَدِ اقْتَرَبُوا فِي الْمَنَازِلِ، وَتَشَاغَلُوا عَنِ التَّوَاصُلِ، فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُمْ جِيرَانَ مَحَلَّةٍ لاَ يَتَزَاوَرُونَ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَتَقَارُبِ الدِّيَارِ، وَأَنَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ؟ وَقَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى، وَأَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَالثَّرَى، وَصَارُوا بَعْدَ الْحَيَاةِ رُفَاتًا، قَدْ فُجِعَ بِهِمُ الأَحْبَابُ، وَارْتُهِنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَابٌ، وَكَأَنْ قَدْ صِرْنَا إِلَى مَا إِلَيْهِ صَارُوا، فَنُرْتَهَنُ فِي ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، وَيَضُمُّنَا ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ، نُؤْخَذُ بِالْقَهْرِ وَالِاعْتِسَارِ، وَلَيْسَ يَنْفَعُ مِنْهُ شَفَقُ الْحِذَارِ، وَالسَّلاَمُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَتَبْتَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: لَمْ أَقْدِرْ لَهُ عَلَى جَوَابٍ.
245 - حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُرَيْحٌ الْعَابِدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، قَالاَ: سَمِعْنَا حَنْتَمَ بْنَ جَحْشَةَ الْعِجْلِيَّ أَبَا بَكْرٍ الْعَابِدَ، يَقُولُ:
يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... إِنَّ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَلِيلْ
مَا أَقْتَلَ الدُّنْيَا لِخُطَّابِهَا ... تَقْتُلْهُمْ قِدْمَا قَبِيلًا قَبِيلْ
تَسْتَنْكِحُ الْبَعْلَ وَقَدْ وَطَّنَتْ ... فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ بَدِيلْ
إِنِّي لَمُغْتَرٌّ وَإِنَّ الْبِلَى يَعْمَلُ ... فِي جِسْمِي قَلِيلًا قَلِيلْ
تَزَوَّدُوا لِلْمَوْتِ دَارًا ... فَقَدْ نَادَى مُنَادِيهِ الرَّحِيلَ الرَّحِيلْ.
الصفحة 502