كتاب التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

262 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا فِي غَدَاةٍ لَنَا وَنَحْنُ فِي الْعَسْكَرِ الأَعْظَمِ, فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً, فَنَامَ أَصْحَابِي وَقُمْتُ أَقْرَأُ جُزْئِي، قَالَ: فَجَعَلَتْ عَيْنَايَ تَغْلِبَانِي وَأُغَالِبُهُمَا, حَتَّى اسْتَتْمَمْتُ جُزْئِي, فَلَمَّا فَرَغْتُ وَأَخَذْتُ مَضْجَعِي, قُلْتُ: لَوْ كُنْتُ نِمْتُ كَمَا نَامَ أَصْحَابِي كَانَ أَرْوَحَ لِبَدَنِي, فَإِذَا أَصْبَحْتُ قَرَأْتُ جُزْئِي، قَالَ: فَقُلْتُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي نَفْسِي, وَاللَّهِ مَا تَحَرَّكَتْ بِهَا شَفَتَايَ, وَلاَ سَمِعَهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مِنِّي، قَالَ: ثُمَّ نِمْتُ, فَرَأَيْتُ فِيَ مَنَامِي كَأَنِّي أَرَى شَابًّا جَمِيلاً قَدْ وَقَفَ عَلَيَّ, وَبِيَدِهِ وَرَقَةٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا الْفِضَّةُ, فَقُلْتُ: يَا فَتَى, مَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ الَّتِي أَرَاهَا بِيَدِكَ؟ قَالَ: فَدَفَعَهَا إِلَيَّ, فَنَظَرْتُ, فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
يَنَامُ مَنْ شَاءَ عَلَى غَفْلَةٍ ... وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ فَلاَ تَتَّكِلْ
تَنْقَطِعُ الأَعْمَالُ فِيهِ كَمَا ... تَنْقَطِعُ الدُّنْيَا عَنِ الْمُنْتَقِلْ
قَالَ: وَتَغَيَّبَ الْفَتَى عَنِّي فَلَمْ أَرَهُ، قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الْوَاحِدِ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلاَمَ كَثِيرًا وَيَبْكِي, وَيَقُولُ: فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ وَبَيْنَ لَذَّتِهِمْ فِي الصَّلاَةِ وَبَيْنَ الصَّائِمِينَ وَبَيْنَ لَذَّتِهِمْ فِي الصِّيَامِ, وَيَذْكُرُ أَصْنَافَ الْخَيْرِ.
263 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ حَاتِمٍ، وَكَانَ مِنَ الْعَابِدِينَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَكَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنَ الْمُتَهَجِّدِينَ، قَالَ: فَقُمْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَعْدَمَا قَدْ مَضَى لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ فِي الْمَسْجِدِ مُتَهَجِّدًا، فَقُلْتُ: مَا حَالُ النَّاسِ اللَّيْلَةَ, لاَ أَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا يُصَلِّي؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لأُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ فِي نَفْسِي, إِذْ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْقُبَّةِ الَّتِي عَلَى الصَّخْرَةِ كَلِمَاتٍ كَادَ وَاللَّهِ أَنْ يَصْدَعَ بِهِنَّ قَلْبِي كَمَدًا, أَوِ احْتِرَاقًا, وَحُزْنًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ, وَمَا قَالَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بِصَوْتٍ حَرِقٍ:
يَا عَجَبًا لِلنَّاسِ لَذَّتْ عُيُونُهُمْ ... مَطَاعِمُ غَمْضٍ بَعْدَهُ الْمَوْتُ مُنْتَصِبْ
وَطُولُ قِيَامِ اللَّيْلِ أَيْسَرُ مُؤْنَةً ... وَأَهْوَنُ مِنْ نَارٍ تَفُورُ وَتَلْتَهِبْ
قَالَ: فَسَقَطْتُّ وَاللَّهِ لِوَجْهِي, وَذَهَبَ عَقْلِي, فَلَمَّا أَفَقْتُ نَظَرْتُ, فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مُتَهَجِّدٌ إِلاَّ قَامَ.

الصفحة 94