كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 26 "
فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ . وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله : ) وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( أي يقولون : سلام عليكم . ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله : فأمّا القتال لا قتال لديكم
ولكنّ سيرا في عرض المواكب
يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف . يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ ( تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى : ) فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأمّا ما اعترض به من قوله : ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى ( وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف . وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر : يموت أناس أو يشيب فتاهم
ويحدث ناس والصغير فيكبر
يريد : يكبر وقول الآخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي جلدها بتذبذب

الصفحة 26