" صفحة رقم 481 "
ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي ( استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم ، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والروية والتدبير من طائر لا يعقل ، ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه والنعي ، أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب ، وفي ذلك هضم لنفسه ، واستصغار لها ، بقوله ) مثل هذا الغراب ( وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادى ما لا يعقل على سبيل المجاز ، كقولهم : يا عجبا ، ويا حسرة ، والمراد بذلك التعجب ، كأنه قال : انظروا لهذا العجب ، ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة ، وتأويله : هذا أوانك فاحضري ، وقرأ الجمهور ) يا ويلتا ( بألف بعد التاء ، وهي بدل من تاء المتكلم ، وأصله ) يا ويلتي ( بالياء ، وهي قراءة الحسن ، وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي ، وقرأ الجمهور ) أعجزت ( بفتح الجيم ، وقرأ ابن مسعود والحسن وفياض وطلحة وسليمان بكسرها ، وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة ، إذا كبرت عجيزتها ، وقرأ الجمهور ) فأواري ( بنصب الياء عطفاً على قوله ) أن أكون ( كأنه قال : أعجزت أن أواري سوءة أخي ، وقال الزمخشري ) فأواري ( بالنصب على جواب الإستفهام انتهى ، وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ، والمعنى : إن تزرني أكرمك ، وقال تعالى ) فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ( الأعراف [ 53 ] أي : إن يكن لنا شفعاء يشفعوا ، ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي ، لم يصح لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب ، وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان ) فأواري ( بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع ، أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون ) أواري ( مرفوعاً ، وقال الزمخشري : وقرئ بالسكون على : فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى ، يعني : أنه حذف الحركة ، وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة ، وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات انتهى ، ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة ، فتحذف تخفيفاً ، كما أشار إليه الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات ، وهذا عند النحويين أعني : النصب بحذف الفتحة لا يجوز إلا وقرأ الزهري ) سوة أخي ( بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الواو ، ولا يجوز قلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة ، كهي في سمول ، وجعل ، وقرأ أبو حفص ) سوة ( بقلب الهمزة واواً وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء ، شي ، وفي سيئة ، سية ، قال الشاعر : وإن رأوا سية طاروا بها فرحاً
مني وما علموا من صالح دفنوا
) فأصبح من النادمين ( قبل هذه جملة محذوفة تقديره : فوارى سوء أخيه ، والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه ، لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه وتبشيره أنه من أصحاب النار ، وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً ، قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة ، وقيل ) من النادمين ( على حمله ، وقيل ) من النادمين ( خوف الفضيحة ، وقال الزمخشري : ) من النادمين ( على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه ، وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ولم يندم ندم التائبين انتهى ، وقد اختلف العلماء في قابيل ، أكان كافراً أو عاصياً ؟