كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 483 "
و ) ذلك ( إشارة إلى القتل ، أي : من جنى ذلك القتل كتبنا على بني إسرائيل ) ومن ( الابتداء الغاية ، أي : ابتداء الكتب ، ونشأ من أجل القتل ، ويدخل على ) أجل ( اللام لدخول من ، ويجوز حذف حرف الجر ، واتصال الفعل إليه شرطه في المفعول له ، ويقال : فعلت ذلك من أجلك ، ولأجلك ، وتفتح الهمزة أو تكسر ، وقرأ ابن القعقاع بكسرها ، وحذفها ، ونقل حركتها إلى الساكن قبلها ، كما قرأ ورش بحذفها وفتحها ، ونقل الحركة إلى النون ومعنى ) كتبنا ( أي : كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص بنو إسرائيل بالذكر ، وإن كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النفس ، وكان قصاصهم فيهم ، لأنهم على ما روي : أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ، ولتظهر مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا يفقهون ، بل هموا بقتل النبي - ( صلى الله عليه وسلم ) - ظلماً ، ومعنى ) بغير نفس ( أي : بغير قتل نفس ، فيستحق القتل ، وقد حرم الله نفس المؤمن إلا بإحدى موجبات قتله ، وقوله ) أو فساد ( هو معطوف على ) نفس ( أي : وبغير فساد ، والفساد ، قيل : الشرك بالله ، وقيل : قطع الطريق وقطع الأشجار وقتل الدواب إلا لضرورة ، وحرق الزرع وما يجري مجراه ، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية ، وقال ابن عطية : لم يتخلص التشبيه إلى طرفي شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول : إن التشبيه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد يحصل من ثلاث جهات ، إحداها : القود فإنه واحد ، والثانية : الوعيد ، فقد وعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب ، فإن ترقبناه يخرج من النار بعد ذلك بسبب التوحيد ، فكذلك قاتل الجميع إن لو اتفق ذلك ، والثالثة : انتهاك الحرمة ، فإن نفساً واحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع ، ومثال ذلك : رجلان حلفا على شجرتين أن لا يطعما من ثمرتيهما شيئاً فطعم أحدهما واحدة من ثمرة شجرته وطعم الآخر ثمر شجرتيه كله ، فقد استويا في الحنث انتهى ، وقال غيره : قيل : المشابهة في الإثم ، والمعنى : أن عليه إثم من قتل الناس جميعاً ، قاله الحسن والزجاج ، وقيل : التشبيه في العذاب ومعناه أنه يصلي النار بقتل المسلم ، كما لو قتل الناس قاله مجاهد وعطاء ، وهذا فيه نظر ، لأن العذاب يخفف ويثقل بحسب الجرائم ، وقيل : التشبيه من حيث القصاص ، قاله ابن زيد وتقدم ، وقيل : التشبيه من جهة الإنكار على قبح الفعل ، والمعنى : أنه ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه ، كما لو قتل أولياءهم جميعاً ذكره القاضي أبو يعلى ، وهذا الأمر كان مختصاً ببني إسرائيل غلظ عليهم كما غلظ عليهم بقتل أنفسهم قاله بعض العلماء ، وقال قوم : هذا عام فيهم وفي غيرهم ، قال سليمان بن علي : قلت للحسن : يا أبا سعيد هي لنا ، كما كانت لبني إسرائيل ، قال أي والذي لا إله غيره ، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا ، وقيل : في قوله ) ومن أحياها ( أي : استنقذها من الهلكة ، قال عبد الله والحسن ومجاهد : أي من غرق ، أو حرق ، أو هلاك ، وقيل : من عضد نبياً ، أو إماماً عدلاً لأن نفعه عائد على الناس جميعاً ، وقيل : من ترك قتل النفس المحرمة ، فكأنما أحيا الناس بكفه أذاه عنهم ، وقيل : من زجر عن قتل النفس ونهى عنه ، وقيل : من أعان على استيفاء القصاص ، لأنه قال ) ولكم في القصاص حياة ( ، قال الحسن : وأعظم إحيائها أن يحييها من كفرها ، ودليله ) أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ( الأنعام [ 122 ] انتهى ، والإحياء هنا مجاز ، لأن الإحياء حقيقة هو لله تعالى ، وإنما المعنى : ومن استبقاها ولم يتلفها ، ومثل هذا المجاز قول محاج إبراهيم ) أنا أحيي ( البقرة [ 258 ] سمي ترك إحياء ، ( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( أخبر تعالى أن الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله ، وكان مقتضى مجيء الرسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف ، وهو المجاوزة في الحد ، فخالفوا هذا المقتضى ، والعامل في ) بعد ( والمتعلق به ) في الأرض ( خبر ) أن ( ولم تنمع لام الابتداء من العمل في ذلك ، وإن كان متقدماً ، لأن دخولها على الخبر ليس بحق التأصل ، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات ، والمراد بالأرض ، أي : حيث ما حلوا أسرفوا ، وظاهر

الصفحة 483