كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 500 "
الكاف والذال جمع كذوب ، نحو صبور وصبر ، أي : سماعون للكذب الكذب .
( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ ( فيحتمل أن يكون المعنى : سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم ، والذين لم يأتوه يهود فدك . وقيل : يهود خيبر . وقيل : أهل الرأبين . وقيل : أهل الخصام في القتل والدية . ويحتمل أن يكون المعنى : سماعون لأجل قوم آخرين ، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين ، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون ، ويهود المدينة . وقيل : السماعون بنو قريظة ، والقوم الآخرون يهود خيبر . وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله ؟ فقال : نعم . وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين ، لم يأتوك : صفة لقوم آخرين . ومعنى لم يأتوك : لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء ، فعلى هذا الظاهر أن المعنى : هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم ، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك .
( يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ ( قرىء الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي : يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها . قال ابن عباس والجمهور : هي حدود الله في التوراة ، وذلك أنهم غيروا الرجم أي : وضعوا الجلد مكان الرجم . وقال الحسن : يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه . وقيل : بإخفاء صفة الرسول . وقيل : بإسقاط القود بعد استحقاقه . وقيل : بسوء التأويل . قال الطبري : المعنى يحرفون حكم الكلام ، فحذف للعلم به انتهى . ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط ، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت ، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله . ومعنى من بعد مواضعه : قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه .
( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ ( الإشارة بهذا قيل : إلى التحميم والجلد في الزنا . وقيل : إلى قبول الدية في أمر القتل . وقيل : على إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول . وقال الزمخشري : إن أوتيتم ، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق ، واعملوا به انتهى . وهو راجع لواحد مما ذكرناه ، والفاعل المحذوف هو الرسول أي : إن أتاكم الرسول هذا .
( وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ( أي : وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال . وقيل : فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد . وقيل : أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به . وقيل : فاحذروا أن تسألوه بعدها ، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله : فخذوه . فالمعنى : وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله .
( وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ( قال الحسن وقتادة : فتنته أي عذابه بالنار . ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون . وقال الزجاج : فضيحته . وقيل : اختباره لما يظهر به أمره . وقيل : إهلاكه . وقال ابن عباس ومجاهد : كفره وإضلاله ، يقال : فتنه عن دينه صرفه عنه ، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه . وقال الزمخشري : ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه ، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى . وهذا على طريقة الاعتزال . وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر . وقطعاً لرجائه من فلاحهم .
( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ ( أي سبق لهم في علم الله ذلك ، وأن يكونوا مدنسين بالكفر . وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة . وقال الزمخشري : أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يظهر به قلوبهم ، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها . إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا

الصفحة 500