كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 513 "
الأول . وقال الخليل : المهيمن هو الرقيب الحافظ . ومنه قوله : إن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألباب
وحكاه الزجاج ، وبه فسر الزمخشري قال : ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب ، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى . وقال الشاعر : مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
فسر بالحافظ ، وهذا في صفات الله . وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام . وقال الضحاك أيضاً : معناه قاضياً . وقال عكرمة أيضاً : معناه دالاً . وقال ابن عطية : وقد ذكر أقوالاً أنه شاهد ، وأنه مؤتمن ، وأنه مصدّق ، وأنه أمين ، وأنه رقيب ، قال : ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها ، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف . وقرأ مجاهد وابن محيصن : ومهيمناً بفتح الميم الثانية ، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه ، أي : حفظ من التبديل والتغيير . والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد ، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك . وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني . وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول ، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال : معناه محمد مؤتمن على القرآن . قال الطبري : فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك . وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمناً ، لأنها عطف على مصدّقاً ، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف ، إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب ، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ، وتقديره : وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد . وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن .
( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله ، وتقدم قول من قال : إنها ناسخة لقوله : ) أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( وقول الجمهور : إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله ، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائداً على اليهود ، ويكون على قول الجمهور أمر ندب ، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموماً ، فالخطاب للوجوب ولا نسخ .
( وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ( أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع ، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع .
( عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ ( الذي هو القرآن . وضمن تتبع معنى تنحرف ، أو تنصرف ، فلذلك عدي بعن أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم ، أو بسبب أهوائهم . وقال أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلاً عما جاءك ، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن ، وهذا ليس بجيد . لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة ، كما لا يصلح أن يكون خبراً ، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق ، والكون المقيد لا يجوز حذفه .
( لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ( الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو : أمة أي : لكل أمّة . والخطاب في منكم للناس

الصفحة 513