كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 524 "
الصالحين حفظهم إياه يسردونه حفظاً كالسورة من القرآن ، وهو مع ذلك لا يعلمهم فرائض الوضوء ، ولا سننه ، فضلاً عن غيرها من تكاليف الإسلام . والعجب أن كلاً من هؤلاء الرؤوس يحدث كلاماً جديداً يعلمه أصحابه حتى يصير لهم شعاراً ، ويترك ما صح عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الأدعية المأثورة المأمور بها . وفي كتاب الله تعالى على غثاثة كلامهم ، وعاميته ، وعدم فصاحته ، وقلة محصوله ، وهم مستمسكون به كأنه جاءهم به وحي من الله . ولن ترى أطوع من العوام لهؤلاء يبنون لهم الخوانق والربط ، ويرصدون لهم الأوقاف ، وهم أبغض الناس في العلم والعلماء ، وأحبهم لهذه الطوائف . والجاهلون لأهل العلم أعداء .
( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف ، لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة بل ذلل ، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام ، لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف كأنه قال : عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع . قيل : أو لأنه على حذف مضاف التقدير : على فضلهم على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع . قيل : أو لأنه على حذف مضاف التقدير : على فضلهم على المؤمنين ، والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانهم ، وهو نظير قوله : ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة ، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز ، وهما صفتا مبالغة ، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله : ) يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( لأن الاسم يدل على الثبوت ، فلما كانت صفة مبالغة ، وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة ، جاء الوصف بالاسم . ولما كانت قبل تتجدد ، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها ، جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد . ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد ، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر ، ولشرف المؤمن أيضاً . ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن ، قدّم قوله يحبهم ويحبونه على قوله : أذلة على المؤمنين .
وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله :
وفرع يغشى المتن أسود فاحم
إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية ، فقدم يحبهم ويحبونه وهو فعل على قوله : أذلة وهو اسم . وكذلك قوله تعالى : ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ( وقرىء شاذاً أذلة ، وهو اسم وكذا أعزة نصباً على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها . وقرأ عبد الله : غلظاء على الكافرين مكان أعزة .
( يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( أي في نصرة دينه . وظاهر هذه الجملة أنها صفة ، ويجوز أن تكون استئناف أخبار . وجوز أبو البقاء أن تكون في موضع نصب حالاً من الضمير في أعزة .
( وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ( أي هم صلاب في دينه ، لا يبالون بمن لام فيه . فمتى شرعوا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ، ولا قول قائل هذان الوصفان أعني : الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة ، لأنّ من أحب الله لا يخشى إلا إياه ، ومن كان عزيزاً على الكافر جاهداً في إخماده واستئصاله . وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمحاورته أعزة على

الصفحة 524