كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 527 "
سمعوا الآذان وقالوا : ابتدعت شيئاً لم يكن للأنبياء ، فمن أين لك الصياح كصياح العير ؟ فما أقبحه من صوت . فأنزل الله هذه الآية . وأنزل : ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( الآية انتهى . والمعنى : إذا نادى بعضكم إلى الصلاة ، لأن الجميع لا ينادون . ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً اندرج في ذلك جميع ما انطوى عليه الدّين ، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، فنبه على أنّ من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ ولياً ويطرد ، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها . وقال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب ، لا بالمنام وحده انتهى . ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم ، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر ، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط . والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة ، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي : اتخذوا المناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق .
( ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ( أي ذلك الفعل منهم ، ونفي العقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين ، واتخذوا دين الله هزواً ولعباً ، فعل من لا عقل له .
المائدة : ( 59 ) قل يا أهل . . . . .
( قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( قال ابن عباس : أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) عمن يؤمن به من الرسل ؟ فقال : أؤمن بالله : ) وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( إلى قوله : ) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ، ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً شراً من دينكم ، فنزلت . والمعنى : هل تعيبون علينا ، أو تنكرون ، وتعدون ذنباً ، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب ، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها ؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيباً ونظيره قول الشاعر : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
والخطاب قيل : للرسول ، وهو بمعنى ما النافية . وقرأ الجمهور : تنقمون بكسر القاف ، والماضي نقم بفتحها ، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح . ونقم بالكسر ، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره . وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم ، وفسر تنقمون بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة . وإلا أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل . وقرأ الجمهور : أنزل مبنياً للفاعل ، وذلك في اللفظين ، وقرأهما أبو نهيك : مبنيين للفاعل ، وقرأ نعيم بن ميسرة : وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة ، وهو واضح المعنى ، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين ، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم . وقرأ الجمهور : بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع ، وفي موضع نصب ، وفي موضع جر . فالرّفع على الابتداء . وقدر الزمخشري الخبر مؤخراً محذوفاً أي : وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق ، وأنكم على الباطل ، إلا أنّ حب الرّياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف . ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدماً أي : ومعلوم فسق أكثركم ، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدّمة إلا بعد أما فقط . والنصب من وجوه : أحدها : أن يكون معطوفاً على أن آمنا أي : ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم ، فيدخل الفسق فيما نقموه ، وهذا قول أكثر المتأوّلين . ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم ، فكيف ينقمونه ، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون ، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون ، كما تقول : ما تنقم مني إلا أني صدّقت وأنت كذبت ، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض ، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض ، وكأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في

الصفحة 527