كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 534 "
تعود بسط الكف حتى لو أنه
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
كنى بذلك عن المبالغة في الكرم . وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس : هو أن الله كان يبسط لهم الرزق ، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك . وقال قتادة : لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل . وقيل : لما استعان بهم في الديات . وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية . وقال قتادة أيضاً : لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي على تخريب بيت المقدّس قالت اليهود : لو كان صحيحاً لمنعنا منه ، فيده مغلولة . وقال الحسن : مغلولة عن عذابهم فهي في معنى : ) نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( وهذان القولان يدفعهما قوله : ) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ). وقال الكلبي : كانوا مخصبين وقالوا ذلك عناداً واستهزاء وتهكماً انتهى . والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام . أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب : ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله : الحسن . أو إلى أن يرد علينا ملكنا . قال الطبري : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة . قاله الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج . وقال مقاتل : أمسكت عن الخير . وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم . والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد ؟ ( قلت ) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه . وأخرجه جار على طريقة الاعتزال . والذي يظهر أنّ قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك . ولذلك جاؤا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعاً منهم فقد قالوا : ) إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ).
) غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ( يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاماً فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا . وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصرون . وقال الشاعر :
لو عصر منه البان والمسك انعصر
ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف .
( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ( معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له ، ولا يشبه بشيء من خلقه ، ولا يكيف ، ولا يتحيز ، ولا تحله الحوادث ، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين . والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ ، وأضاف ذلك إلى اليدين جارياً على طريقة العرب في قولهم : فلان ينفق بكلتا يديه . ومنه قوله :

الصفحة 534