كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 3)

" صفحة رقم 538 "
الأشجار المثمرة ، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة . وقيل : من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض ، وتحت أرجلهم . وقال تاج القراء : من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامّهم ، وعبر بالأكل عن الأخذ ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة .
( مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ( الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب . والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله : وكثير منهم . والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال ، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي : كانت أولاً جائزة ثم اقتصدت . قيل : هم مؤمنو الفريقين عبد الله بن سلام وأصحابه ، وثمانية وأربعون من النصارى . واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى . وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماً وحديثاً ، ونحوه قول ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب . وذكر الزجاج وغيره : أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين . وقال الزمخشري : مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الطبري : من بني إسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول : هو عبد الله ورسوله وروح منه ، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم : هو الإله ، وعلى هذا مشى الرّوم ومن دخل بآخره في ملة عيسى . وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي كغيره لغير رشده ، فتلخص في الاقتصاد أهو في حق عيسى ؟ أو في المناصبة ؟ أو في الإيمان ؟ فإن كان في المناصبة فهل هو بالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء ؟ قولان . وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسول من الفريقين أو من آمن قديماً وحديثاً ؟ قولان .
( وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( هذا تنويع في التفصيل . فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة ، جاء الخبر الجار والمجرور ، والخبر الجملة من قوله : ساء ما يعملون ، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى . وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً ، والوصف ألزم للموصوف من الخبر ، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة ، وأخبر عنها بقوله : منهم ، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا ، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم ، باعتبار الحالة الماضية . وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار ، فجاء الوصف بالإلزام ، ولم يجعل خبراً ، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون ، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم ، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة ، واختار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تنصرف ، فإن فيه التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم ولم يذكر غير هذا الوجه . واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول : ساء الأمر يسوء ، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله : ساء مثلاً . فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين ، وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز أي : ساء عملاً ما كانوا يعملون .
المائدة : ( 67 ) يا أيها الرسول . . . . .
( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ( هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني ، وأمر بتليغ ما أنزل إليه وهو ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد بلغ ما أنزل إليه ، فهو أمر بالديمومة . قال الزمخشري : جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه . وقال ابن عطية : أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال ، لأنه قد قال : بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية أن لا يتوقف على شيء مخافة أحد ، وذلك أنّ رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم ، فكان يلقى منهم عنتاً ، وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية . وعن ابن عباس عنه عليه السلام : ( لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية ) . وقيل : هو أمر بتبليغ خاص أي : ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره اليهود في

الصفحة 538