كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (اسم الجزء: 3)

آثَروا دُنيا هي أضغاثُ أحلام، وكم هَفَتْ في حبِّها من أحلام، أطالوا فيها آمالَهم، وقصَّروا أعمالَهم، ما بالُهم لم يتَفرَّغْ لغيرِها بالُهم، ما لهم في غيرِ ميدانِها استنان، ولا [184 و] بسِوى هواها استنان، تالله لو كُشِفَت الأسرار، لَما كان هذا الإصرار؛ ولَسَهِرتِ العيون، وتفَجَّرتْ من شؤونِها العيون، فلو أنّ عينَ البصيرة من سِنَتِها هابّة، لَرَأَتْ أنّ جميعَ ما في الدُّنيا ريحٌ هابّة، ولكنِ استَولَى العمَى على البصائر، ولا يَعلَمُ المرءُ ما هو إليه صائر، أسألُ اللهَ هدايةً لسبيلِه، ورحمةً توردُ في نسيمِ الفِردَوْس وسَلْسَبيلِه، إنهُ الحَنّانُ المَنّان، لا رَبّ سواه.
وقولُه (¬1): فَلَتاتُ الهِبات، أشبهُ شيءٍ بفَلَتاتِ الشَّهَوات، منها نافعٌ لا يُعْقِبُ نَدَمًا، ومنها ضارٌّ يُبقي في النفْس ألمًا، فضَرَرُ الهِبة وقوعُها عندَ من لا يعتقدُ لحقِّها أداءً، وربّما أثمرَتْ عندَه اعتداءً، وضرَرُ الشّهوة ألّا توافِقَ ابتداءً، فتعودَ لمُستعمِلها داءً، ومَثَلُها كمَثَل السُّكْر يلتَذّ صاحبُه بحُلوِ جَناه، فإذا صَحا تعرَّف قَدْرَ ما جَناه، ومنفعتُها بعكسِ هذه القضيّة، وهي الحالةُ المَرضيّة، فالأسلمُ للمرءِ أن يأتيَ أمرَه على بصيرةٍ من رُشْدِه، مستوضِحًا فيه سبيلَ قَصْدِه، وما التوفيقُ إلّا بالله، وما الخيرُ إلّا من عندِ الله، لا إلهَ إلا هو.
ونَظَمَ معناه فقال [الطويل]:
وكم فَلَتاتٍ للصنائعِ تُتَّقَى ... عواقبُها إنْ لم تقَعْ في محلِّها
كذا شهَواتُ المرءِ إنْ لم تكنْ لهُ ... مُوافقةً عادَتْ عليها بِكَلِّها
وقال (¬2) [الكامل]:
لصنائع المعروفِ فَلْتَةُ غافلِ ... إن لم تَضَعْها في محلٍّ قابلِ
كالنفْسِ في شَهَواتِها إن لم تكنْ ... وفْقًا لها عادتْ بضرٍّ عاجلِ
¬__________
(¬1) الإحاطة 2/ 238.
(¬2) الإحاطة 2/ 237.

الصفحة 515