كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة (اسم الجزء: 3)

هذا كلامٌ لا يَصدرُ إلا عن الرَّصِين المُهذَّب، الذي لا تَستفِزّه ذواتُ العيونِ والبَنانِ المُخضَّب، وما أقربَه من منزلةِ الفلاح، مَنْ خاف رَبَّه في مواصلةِ المِلاح، ولَشَدَّ ما أبرَقَ في شِعرِه وأرعَد، وتهدَّد وتوَعَّد، ومَوَّة وشَعْوَذ، واستطالَ على الجَزالةِ واستحوَذ، عَفَا اللهُ عنه، إن لم يكنْ ذا صارمٍ عَضْب، فإنه ذو لسانٍ عَذْب.
وتاليه على أحسنِ هَدْي وأَمّ، وهما في الخَشْيةِ رَضيعا ثَنيِ أُمّ، وصاحبتُه واعظةٌ فصيحة، نصَحتْه و"الدّينُ النَّصيحة"، كرَّرتِ الوَعْظ، وكَسَرتِ النَّعْظ، لله دَرُّها! لقد على في الصالحاتِ قَدْرُها.
والثالثُ غيرُ مَبْخوسِ الكَيْل، وهُو القائل [الوافر]:
فلا تَكُ طامعًا في النَّيْل
وإنه في النَّسيب، لمَوفورُ النَّصيب، وإن حرَمتْه صاحبتُه وصلًا، وجعَلتْه حَرامًا بَتْلًا، فقولُها [الوافر]:
"ورُبَّتَما يُحَلَّلُ بالإجارَهْ"
دليلٌ على أنْ قد لانَ بعضُ الحِجارهْ، وقد أوجَدَتِ السبيلَ إلى التحليل، غيرَ أنّ "رُبَّ" للتقليل.
وليتَني كنتُ جارًا، لمن أصار حُسْنُ الجار قَلبَهُ لها وِجارًا، هذا العاشقُ حقًّا، وسُحْقًا لمن قال (¬1): "فسُلِّي ثيابي من ثيابِك" سُحقًا، لقد توسَّلَ في شعرِه بلطيفِ سبب، وأشار إلى شريفِ نَسَب، وأجاد الخُضوعَ لمحبوبِه والضّراعَة، حتّى كاد يمُدُّ إلى مطلوبِه ذِراعَه.
ولقد أرسَلَ نهارَه في الحرب وارِدًا وَخفًا، من قال: "سَلِي بي مُلتقَى الخَيْلينِ زَحْفا"؛ فإنْ يَصدُقْ فلستُ في لَبْس، إنه أشجعُ من أخي عَبْس، ألا تَراهُ يقول [الوافر]:
"إذا سألَ الرَّدى منِّي الإجارَهْ"؟
¬__________
(¬1) القائل هو امرؤ القيس في معلقته "قفا نبك"، والبيت كاملاً:
وإن تك قد ساءتكِ مني خليقة ... فسُلي ثيابي من ثيابك تنسُلِ

الصفحة 70